بعد اكتشاف آثار عمرها ألفي عام: هل تتحوّل كابيلا صور البيزنطية المارونية إلى وجهة سياحية كبيرة؟

في الآونة الاخيرة كثر الحديث عن كنيسة مارونية جديدة يعود عمرها التاريخي الى القرن الأول الميلادي. وبدافع الفضول للبحث والتّحري عنها، قمنا بزيارة الكاتدرائية المارونية في مدينة صور،حيث استوضحنا عن ماهيّة هذه الكنيسة من خلال مقابلة رئيس أساقفة صور للموارنة، المطران شكر الله نبيل الحاج.
وقد شرح لنا الحاج أنّ الصّدف هي التي اكتشفت الكنيسة "ففي الواقع كنّا نريد إقامة كابيلا لشهداء صور من القرن الرابع. فنحن لدينا شهداء مسيحيون في صور لهم منّا في السّنة أربعة أعياد في 19 شباط و24 تمّوز و29 أيار و6 حزيران. وهؤلاء الشهداء موجودون في كتبنا الطّقسيّة وعلى رزناماتنا اللوترسيّة. لذا أحببنا أن نصنع لهم نموذجا حيا يذكرنا بهم دائماً، وعندما حفرنا، إكتشفنا آثارات وأبنية،لا بل اكتشفنا أيضا هيكلا يونانيا يعود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وكذلك وجدنا جدرانا رومانية
تُرجَع إلى القرن الأول الميلادي الذي عاش فيه المسيح. وهذا ما جعلنا بالطبع ننسّق مع مديرية الآثار اللبنانية من أجل ترتيب المكتشفات على شكل كنيسة. وقد أضفنا إلى هذه المكونات اليونانية والرومانية مكونات حضارية جديدة بطريقة بسيطة ومميزة لنكوّن تحفة فنيّة صغيرة تمثل ما أسميناه "كابيلا"، والتي لا بدّ لزائرها أن ينبهر بتناسقها وجمالها".

ليست وزارة السياحة من قام بتمويل الترميم، ولا حتّى مديرية الآثار، لكنّ الله، بحسب الحاج، أرسل إلى القيّمين محسنا تكفّل بتكاليف ترميم الكنيسة والتي تبلغ قيمتها نصف مليون دولار: "آخذين بعين الإعتبار مسألة الحفاظ على جمالية الآثار القديمة ودمجها بتناسق مع الأمور الجديدة التي أضفناها كي يسترعي الطابع القديم الانتباه بالدرجة الأولى". وقد قام المشرفون على العمل بإكمال بناء الجدران ليبلغ طولها خمسة أمتار بطريقة تظهر الجدار القديم والجدار الجديد وبنوا السقف أيضاً. ولأن هذه الكنيسة بنيت على اسم الشهداء والقديسين فقد نصبت لهم أيقونات وضعت في إيكونوستاز (كادر جميل) يناسب الكنيسة. كما تم العثور على ذخائر للشهداء كانت ما زالت في روما منذ الحملات الصليبية، فتم إحضارها ووضعها في آنية مخصصة للذخائر وكادر خشبي يظهر قدسية المكان. والداخل إلى الكابيلا يلاحظ وجود البلاط القديم في الجناح الروماني المخصص للتقديس، أما الجناح اليوناني فلم يحتو على البلاط، لذلك غطيت أرضيته بفسيفساء يونانية تحمل الطابع القديم من الفسيفساء في صور. وكذلك وضع على مدخل الكنيسة والساحة الكبرى للكاتدرائية منحوتات للرموز المسيحية الأولى تحضّر الزائر للدخول الى الكابيلا التي تحتوي على مشاهد من حياة المسيح في صور، والمتمثلة بمجيء المسيح إلى صور – عرس قانا الجلبل – وتجلّي المسيح على طور طابور والقديس ماربولس الذي زار صور سنة 57 ميلادية.

 إن عدم وجود مدفن لمطرانية صور دفع القيّمين على الكنيسة إلى إقامة مدفن أساقفة صور. ومن المعروف دائما أن الأسقف يدفن في المكان الذي يخدم فيه. وكانت هناك عادة في الكنائس الأرمنية والسيريانية القديمة أن الكاهن يعتبر في حياته جسر العبور بين الخارج والداخل. فالخارج يمثل الأرض
والدّاخل يمثل السماء "ونحن نؤمن بأنّ الكاهن بعد موته يتابع عمله من السماء ليساعد الناس على دخول الكنيسة بالعبور فوقه للدخول اليها".

الكنيسة الجديدة إذا تقبع تحت الكنيسة الحالية والتي هي بالأصل معمّرة على كنيسة بيزنطية: "إذ أننا وخلال ترميمنا تالكاتدرائية وجدنا آثارا لكتيسة بيزنطية قديمة ولكننا أخفيناها كي لا تتعطل هذه الكنيسة. ولهذا فإن الكنائس عندما تكون قديمة تكون معالم سياحية لانها بحد ذاتها تحمل تاريخا وآثارات وفنا بنائيا. وهذا يدخلنا في الحضارات القديمة لان كل كنيسة هي أيقونة للحضارة التي بنيت خلالها. والكنيسة ليست مكانا للصلاة فقط وإنما يستطيع الجميع زيارتها وكذلك من خلال القيام بفروض العبادة يستطيع الزائر التعرف إلى الحضارة التي بنيت فيها هذه الكنيسة".

وذكّر المطران بأنّ صور "هي مهد المسيحية الأولى في لبنان. فهي أول مدينة بشرت بالمسيحية من قبل المسيح الذي زارها. فالكنيسة ازدهرت في مدينة صور إلا انها وكغيرها من الديانات تعرضت للإضطهاد في بداياتها وخاصة على يد ديكيليانوس الذي حكم الشرق من سنة 300 حتى 310 م. وعندها استشهد الشهداء الخمسمئة والذين نتذكرهم في 19 شباط. وأولى شهيدات صور هي القديسة كريستينا بنت والي صور، وبعدها جاءت القديسة ثيودوسيا والقديس ديروتاوس المحفوظين في السنكسار الماروني، وهؤلاء هم شهداء القرن الرابع الذي عرف الإضطهاد الهائل للمسيحية، ونحن أردنا ان نجعلهم أحياء معنا ونجعل
مَثَلهم حافزا داعيا إلى الإيمان العميق والحقيقي الذي يدفعنا الى إعطاءوقلبنا لله وأن نشهد للقيم الروحية التي هي قيم المحبة والطهارة التي وعوّدونا عليها.

ولتكتمل الصورة كان لنا لقاء مع المونسنيور شربل عبدالله، النائب العام لأبرشية صور المارونية، والمتعمق في الفنون التاريخية، الذي أطلعنا بشكلتفصيلي على محتوى الكنيسة، شارحا أنّ الآثار هذه اكتشفت سنة 2005 وبنيت الكابيلا بشكلها الحالي سنة 2008.
من الناحية التاريخية، بحسب عبد الله، فإنّ بعض الاحجار تعود الى الحضارة الهلّينية في المرحلة الأخيرة من الحضارة اليونانية، ومعنى ذلك انها تعود الى اربعمئة سنة قبل المسيح. وقد عمرت هذه الاحجار بالطريقة "المكردسة"، والتي تدل إلى أنه فوق هذه الاحجار كان هناك بناء لهيكل كبير وهذه
الاحجار هي أساسات له. ولاحقا بنيت كنيسة سيدة البحار –المارونية بذات الموضع وهذه قاعدة تاريخية مهمة والتي تتمثل ببناء الاماكن الدينية دائماً فوق بعضها البعض".
أما مذاخر القديسين فتحتوي على عظام القديسين من شهداء صور بالإضافة إلى ذخائر قديسين موارنة من القرن التلسع عشر والقرن العشرين. وذخائر شهداء صور أتي بها من روما "بمقدار حبة عدس مما هو موجود هنا، للتبرّك فقط"، ويتابع شارحا: "الجرن الحديث للمعموديّة لأن هناك تقاربا لاهوتيا ما بين
الشهداء الذين اعتمدوا بدمائهم والمؤمنون الذين يأتون لكي يعتمدوا بموت المسيح وقيامته وهذه الكنيسة جعلناها بنوع خاص لإعطاء سرّ المعموديّة".
ويعرض "الإيكونوستاز" لوحات لشهداء صور القديسين والمتمثلين بالشهيد الأسقف ديروتاوس والشهيدة القديسة ثيودوسيا والشهيدة القديسة كريستينا. واللوحة تمثل الشهداء الموارنة وعيدهم في شباط. أما الحائط فيعود الى الحضارة الرومانية وبحسب التقدير فإن قبالة هذا الحائط ربما كان هناط طريق رومانية. وأرضية الجناح هي عبارة عن فسيفساء مستوحاة من كنيسة بيزنطية موجودة في الجيّة. فالتقليد البيزنطي دام في لبنان من سنة 314 الى سنة 637م. وإلى شمال الداخل نجد غرفتين رومانيتين, جدرانهما معمّرة بحجر لاطوني طري وطبشوري. وهذه الطريقة في العمار كانت معروفة في العصر الروماني وبقيت معروفة حتى العصر البيزنطي، وهي تسمّى "أبسكوادراتو". يومها كان هناك معامل لإنتاج هذه الصخور او هذا النوع من الاحجار .أما الجدران الموجودة هناك فهي اعلى جدران باقية في لبنان تعود إلى هذه الحقبة التاريخية: "في وسط ذلك الجناح الروماني نرى المذبح الذي يقام فيه التقديس. وبالنسبة لباب المدفن فعليه منحوتة تمثّل إحياء المسيح لعاذر وإقامته له من بين الاموات".

أما مسؤول الآثار الاستاذ علي بدوي فقد كانت له نظرته الخاصة بشان الآثار المكتشف، فهوي يرى أنّ "هذا الموقع يعود للقرن الثاني ق.م"، وأنّه "جزء من مبنى لا نعرف ماهيّته وعلى جانبه، كما يبدو، هناك طريق، وموقعه مميّز لأنه قريب من مرفأ صور. وتبعا لطريقة البناء فهذا القسم كان مستخدماً
كمخازن"، ويلاحظ بدوي " آثار لحريق لا زالت واضحة تفاصيلها على الجدران الى الآن. وبالطبع بعد دمار المدينة بفترات لاحقة أقيمت تعديلات على المبنى في الفترة الرومانية والمتمثلة بالأعمدة وفي القرن التاسع عشر بدأ بناء الكنيسة المارونية والموجودة الآن بشكلها الحالي في القرن العشرين". لكنّه لا يستطيع الجزم بالعمر التاريخي لهذه الآثار المكتشفة.

يبقى أنّ هذا الموقع هو جزئياً مرتبط بشبكة الآثار الموجودة في مدينة صور. وهومعروف من قبل روّاد الكنيسة بالدّرجة الاولى ولكن مع الوقت سيتم التّرويج له اكثر وسيصبح معروفا على نطاق واسع، ومن المتوقع أنّ يتحول، على خارطة المدينة، إلى موقع اثري قابل للزيارة من قبل المجموعات السياحية. وحتّى الكنيسة المارونية الحالية تدرجه تحت لائحة الأبنية التاريخية.

هذا ولا يؤكد بدوي أنّ الموقع كان كنيسة بيزنطية "إذ لا وثائق تثبت هذا الأمر. وفي المرحلة اللاحقة من التنقيب تمّ الكشف عن جزء من حمّام بخاري روماني في طرف الكنيسة على المدخل". وهو يشير إلى أنّ "طرق التنقيب صارت متطورة لان اعمال التنقيب باتت تتم بشكل يحفظ النسيج المدني ويحافظ على
حياة المواطنين اليومية. ففي اماكن كثيرة تتم اعمال التنقيب والتسكير والإحتفاظ بطوابق أثرية وطوابق فوقها مبنبة، وفي مديرية الآثار يتطلعون نحو اي ثغرة من شأنها ان تفتح نافذة على التاريخ القديم لمدينة صور ولبنان ككل لأنه من المهم وجود مدينة فيها حياة وفيها هذه المواقع. فمعظم المدن الرومانية والفينيقية لا زالت موجودة تحت الابنية الحالية.

السابق
رئيس الجمهورية ميشال سليمان في الجنوب لتفقد اليونيفل و برفقته غصن و قهوجي
التالي
الصحة وافقت على اقتراح تقسيط الديون المترتبة للضمان على المؤسسات والأطباء والمضمونين الإختياريين مع إعفاء من الغرامات