من أقنع المصارف اللبنانية بتمويل المحكمة الدولية؟

شكّل الخبر الذي وزعته جمعية المصارف اللبنانية، في شأن تغطيتها لمبلغ الـ32 مليون دولار، لتسديد حصة لبنان في تمويل المحكمة الدولية صدمة في كل الاوساط. ذلك ان التبرير الذي تمّ تقديمه أوحى بأن المصارف اضطرت الى دفع «خوة»، من اجل ضمان استمرار الهدوء في البلد، وابعاد كأس العقوبات.
أصيب أهل السياسة والرأي بالحيرة في قراءة خلفيات ومفاعيل الخبر الذي اشار الى تغطية المصارف للمبلغ الذي دفعته الدولة لتسديد حصتها في تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وقد جاء رد فعل الرئيس سعد الحريري ليُثبت وجود تردّد لدى قوى 14 آذار في تقييم ما جرى. اذ أثنى زعيم تيار المستقبل على خطوة المصارف، لكنه حرص على التذكير بأن الاموال التي خرجت من صندوق الهيئة العليا للاغاثة، أموال تملكها الدولة، وبالتالي فان حزب الله، الموجود في الحكومة يكون قد ساهم في تمويل المحكمة.

في المقابل، وبناء على رد فعل الرئيس نبيه بري، تبين ان فريق 8 آذار بدا راضيا عن هذا الخبر السار، لأنه يعيد اليه شيئا من معنويات فقدها عقب تمرير التمويل رغماً عن ارادته. يومها، قال امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، ان المال المخصص لتمويل المحكمة لن يخرج من جيوب المكلف، وان الخزينة لن تتحمل هذا العبء. وجاءت مبادرة المصارف لتفسّر خلفية هذا الكلام.

 
في المحصلة، وبصرف النظر عن الحسابات السياسية في هذا الموضوع، السؤال المطروح هو لماذا جرى إقحام المصارف علناً في هذا الملف. وهل من الحكمة أن تبدو المصارف مغلوبة على أمرها في مواجهة حالة من الاستخفاف تسيطر على الطبقة السياسية، بحيث ان هذه الطبقة كادت تقود البلد الى الانهيار، وتعرضه للعقوبات والعزلة الدولية. ولمن يسأل عن مهندس هذا المخرج وكيف نجح في اقناع المصارف بالدفع، يبدو الجواب بسيطا : القيمون على المصارف اضطروا الى لعب دور ام الصبي، بعدما تبين لهم أن الصبي يتيم الأب والأم؟

ما جرى مع المصارف، وبصرف النظر عن تأثيراته المالية في خفض أرباح القطاع المتدنية أصلا هذا العام بسبب الثورات في دول المنطقة، وبفضل التجاذبات السياسية في الداخل، أثبت ان الدولة تتخبّط في دوامة يصعب الخروج منها في ظل العقلية السائدة. واذا كانت المصارف تبرعت وفدت الاستقرار بـ32 مليون دولار لمرة واحدة فقط، كما أكد رئيس جمعية المصارف جوزف طربيه، فمن سيفتدي الافلاس الزاحف نحو الدولة ويتبرّع لإبعاد هذه الكأس المرّة عن البلد؟

مؤشرات الافلاس تظهر من خلال ما يجري اليوم بين العمال والهيئات الاقتصادية، حيث يتضح ان الاجير على حق عندما يتحدث عن تضخّم إلتهم قدرته الشرائية وساهم في تدني قيمة الرواتب الفعلية الى مستويات دنيا. في المقابل، الهيئات الاقتصادية على حق أيضا، عندما تلفت الانتباه الى تراجع كل المؤشرات الاقتصادية في البلد، والى الضغوطات التي تتعرّض لها معظم القطاعات، بحيث تشير الارقام الى كساد عام، والى احتمال تحمُّل الاقتصاد المزيد من النكبات في العام 2012.

في سياق متصل، تعيش الحكومة في حالة غيبوبة وتخبّط، بدليل أن مشروع الموازنة للعام 2012 يبدو في طريق مسدود. من جهة، الرئيس ميقاتي، وأطراف سياسية أخرى في الحكومة لا تريد اضافة ضرائب جديدة، ومن جهة أخرى ارقام العجز المقدّر تتجه الى الارتفاع وقد تصل الى أكثر من اربعة مليارات دولار. حيال هذه المعضلة يبرز الاقتراح القديم الجديد بفرض ضرائب على الارباح العقارية. لكن المفارقة ان الحكومة تختار دائما التوقيت الخاطىء في اتخاذ القرارات. وقد أظهرت الارقام تراجعا نسبته حوالي 20 في المئة في حركة المبيعات العقارية في الاشهر العشرة الاولى من هذا العام. هذا الرقم مرشح للارتفاع أكثر في الاشهر المقبلة، الامر الذي سينعكس على قطاعات اخرى، منها القطاع المصرفي الذي يستثمر حوالي 20 في المئة من قروضه للقطاع الخاص في العقارات والرهون العقارية.

الأمر الآخر الذي يتكتّم عليه القطاع المصرفي حاليا هو نضوب الاموال المخصصة للتسليف العقاري، ومصدرها الاساسي المال الاحتياطي الذي أفرج عنه مصرف لبنان لتشجيع الإقراض لشراء المساكن. وبالتالي، فان المصارف باشرت مؤخرا، ودون الاعلان عن ذلك، عملية فرملة في منح القروض السكنية. وهي تحاذر الكشف عن هذا الامر خوفا من ردة فعل الاسواق والتي قد تؤدي الى انهيار اسعار العقارات، ذلك ان اصحاب العقارات الذين سيعرفون بأن القروض السكنية لم تعد مُتاحة كما كانت في السابق، سوف يدخلون في منافسة شرسة لبيع عقاراتهم، وسيؤدي ذلك الى انهيار الاسعار. وتحاول بعض المصارف الكبرى حاليا اطلاق منتجات للاقراض السكني غير المدعوم، اي بفوائد مرتفعة نسبيا في محاولة لتغطية هذا النقص في السيولة المخصصة لهذا القطاع.

وعليه، وفي حال حاولت الحكومة التذاكي من خلال فرض ضرائب جديدة على القطاع العقاري تكون كمن يطلق رصاصة الرحمة على هذا القطاع، وتساهم من حيث تدري أو لا تدري في تسريع الانهيار الاقتصادي.

العمال في مأزق، ارباب العمل في مأزق والحكومة في النفق المظلم، فمن سيتبرع لانقاذ هذا الوضع المستعصي؟  

السابق
سحابة كونية عملاقة تتجه إلى مجرتنا بسرعة هائلة
التالي
LA CARTE