يسترجعن الليل ليربحن النهار

إلى فرح..

يوم وعدتها بأنني سأهديها مقالاً قريباً، لم أعِ أن الـ"قريب" هذا سيأتي بعد أقل من أسبوع.
كل ما كان ليلة السبت في السادس والعشرين من الجاري ذكرني بها. تلبية للدعوة التي تطلقها الشبكة النسوية في لندن سنوياً، توجهت المئات من النساء إلى نقطة التجمع في وسط عاصمة الضباب. حضّرن يافطاتهن، كتبن شعاراتهن وانطلقن في مسيرة "استرجعي الليل". لم أتذكرها لمجرد أنني شاركت وإياها في مسيرة مماثلة في بيروت السنة الماضية بل لأن الليل كان شديد السواد ودامس العتمة. كان البرد قاسياً على أطراف الجسد، والضباب حاد الوجود يكاد يُلمس بطرف الأصابع المنكمشة على راحة اليدّ. ومع ذلك أصرت النساء على السير، عازمات لا يلويهن شيء. مثلها.

هذه السنة، قررت الشبكة أن تقتصر المسيرة على النساء فقط. والسبب أتى جلّياً حين سأل أحد المتفرجين على المسيرة: "لأن هذه المسيرة رمزية، تهدف إلى إعطاء النساء فرصة لاسترجاع الشوارع في الليالي من دون خوف ومن دون اللجوء إلى ذكر يتواجد معهن لغرض حمايتهن".

المسيرة إذاً حدث سنوي رمزي ترفع فيه النساء أصواتهن ضد الاغتصاب وضد كل أشكال العنف الذكري ضد النساء، وقد حددّ هذه السنة في السادس والعشرين من الشهر الحالي لمصادفته اليوم العالمي لإلغاء كل أشكال العنف ضد النساء. وهكذا، تداعت النساء إلى استرجاع ليل بارد أرادته مالكاته أن يكون نسوياً، آمناً. مشين في سيل متنوع تشكّل من نساء من مختلف الألوان والحضارات والأديان والأعمار والميول الجنسية والقدرات الجسدية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وغنين، وصدح غناؤهن عالياً مرغماً السماء الضبابية على الابتسام، منتزعاً منها دفئاً "لحظوياً" تفرّط به في المناسبات فقط. كان غناءً غاضباً وشجياً في الوقت عينه. لم يكن ذلك الغضب المزعج بصراخه، بل كان غضباً حاضراً واضح المعالم. تماماً مثلها. هي وغضبها الحاد المعالم، القوي الحضور، غير المضطر للجوء إلى الصراخ ليسجّل حضوره.

نساء لندن مشين لاسترجاع الليل من المغتصبين، غاضبات لأنهن ما زلن منذ سبعينيات القرن الماضي يلمن على جرائم الاغتصاب والعنف التي ترتكب بحقهن. يمشين ليعدن العار إلى أصحابه، مرتكبي الجرائم. "نسترجع الليل لنربح النهار"، كما صرخت إحداهن. نساء لندن مشين ليعبّرن عن رفضهن لآخر دراسات "منظمة العفو الدولية" التي أظهرت أن ثلث المجتمع البريطاني ما زال يعتقد بأن المرأة ملامة، جزئياً أو كلّياً، في حال تعرضها للاغتصاب، إذا كنّ يشربن الكحول أو إذا ارتدين "ثياباً مغرية". نساء لندن مشين ليرفعن الصوت ضد واقع لم يعدن يقبلنه. ففي الوقت الذي يبلغ فيه عدد جرائم الاغتصاب التقريبي حوالى 47 ألفا سنوياً وعدد الاعتداءات الجنسية أكثر من ثلاثمئة ألف، يبقى معدل الإدانة والتجريم ما دون 6% وهو أكثر المعدلات انخفاضاً في أوروبا.
 نساء لندن يمشين ليعلنّ الحرب على قوانينهن التي لا تحرص على محاسبة المغتصبين "كما يجب"، أي بالسجن مدى الحياة (لأنها العقوبة القصوى التي يستطيع أن ينالها قانونياً، إلا أن المغتصبين نادراً ما يدانون). نساء لندن يمشين لينتفضن على واقع يقول إن 95% منهن لا يشعرن بالأمان على الطرق ليلاً، لأن 73% منهن يرتعبن من احتمال الاغتصاب، وأكثر من نصفهن يمتنعن عن الخروج لأنهن يخشين على سلامتهن.
مشيت مع النسوة في لندن، وكنت أفكر في نساء بلدي. حاولت التحليل بالأرقام، لكنني تذكرت أن لا المؤسسات العامة ولا الخاصة ولا حتى الجمعيات أحصت عدد جرائم الاغتصاب أو الاعتداءات الجنسية. كيف ألوم "الدولة" وهي أساساً لم تُعنَ بإحصاء عدد سكانها مذ غابت الرعاية الفرنسية لـ"لبنان الكبير"؟ ولا منظمة عفو دولية في لبنان لتدرس آراء الناس بالاغتصاب. ثم انتبهت إلى أنني لا أرغب بمعرفة النتائج ربما، لا سيما إن تبيّن أن أكثر من نصف اللبنانيين يلومون المرأة على العنف المرتكب بحقها. وتذكرت صديقاتي اللواتي بتن يخشين الخروج ليلاً في بيروت بمفردهن. تذكرت كيف أن كل واحدة منهن في بيروت اليوم، هي نفسها مركز إحصاء، تسجل الأحياء الآمنة وغير الآمنة لتحذّر الأخريات منها.

مشيت مع النسوة في لندن وكنت أفكر بنساء لبنان. أتأمل كيف أن معدل الإدانة والتجريم للمغتصبين في لبنان لا يعقل أن يتخطى الصفر. ويا ليت السبب هو عدم التصريح عن الاغتصاب أو التبليغ عنه. معدل الإدانة في لبنان صفر لأن قانون العقوبات نفسه هو المغتصب، يعفي المجرم – المغتصب من عقوبته إذا تزوج ضحيته. ولأن داخل البيت الأسري لا قانون عقوبات ولا أي قانون أصلاً يحميها، لأن الأديان كلها قررت إعلان المرأة "ملكية خاصة" لزوجها.
مشت النسوة تلك الليلة من دون خشية من الذين أرادوا استفزازهن، لأن الشرطة كانت على مقربة منهن لتحرص على أن تبقى المسيرة كما أرادها منظموها، نسائية بحتة.
وأنا مشيت معهن في لندن وتساءلت إن كان الأمن – الشرطة في بيروت مثلاً ستحمي المسيرة وتحافظ عليها كما أرادتها منظماتها.

مشيت مع النسوة وكنت أفكر بها. وكم كانت لتتماهى الناشطة النسوية في لبنان مع مطالب النساء هنا. ذرفت دمعتين تأثراً بالمشهد، بالطاقة التي كانت تجري في طول المسيرة وعرضها، بصدق الحناجر والقلوب. ذرفت دمعة ثالثة لأنني وجدت نفسي أقارن بين المدينتين حيث لا تجوز المقارنة، وجدت نفسي اعتقد أن لندن أكثر أماناً للنساء من بيروت. أكاد اسمع تهكم كثر يقذفونني بنصائح ساخرة بالبقاء في لندن. لا أريد. أريد الحياة في بيروت، لي ولابنة أختي ولابنتي. أريد أن أظهر أنوثتي وأنثويتي وجنسانيتي وميلي الجنسي كما أريد أنا، وبالأسلوب الذي يريحني أنا، لا بالأسلوب الأكثر سترة والأقل ضررا. أريد لابنتي أن ترتدي ما تشاء من دون ضغط أو مساومة على الخيارات. أريد لابنة أختي بيئة طبيعية لا مبرر فيها للعنف الذكري ولا محفزات فيها عليه.
أفكر بها مجدداً. وأتمنى لو استطيع أن اهديها هواءً بيروتيا نقيا خاليا من الذكورية!  

السابق
مؤتمر صحافي لنقابة المصورين غدا
التالي
إسرائيل