هل تفصح المحكمة الدولية عن كيفية صرفها للأموال؟

وأخيراً انبلج فجر المخرج السياسي لقضيّة دفع لبنان حصّته من ميزانية المحكمة الخاصة بلبنان بعد طول أخذ وردّ، ليضيء على إشكالية أخرى تتمثّل في عدم التزام المحكمة نفسها في التعاطي بشفافية مع التبرّعات والمساهمات المالية التي تدخل في نطاق ميزانيتها السنوية، ممّا يرسم علامات استفهام كبيرة حول سكوت المحكمة المستمرّ رداً على أيّ سؤال يوجّه إليها بهذا الخصوص.

ولا يعفي تنفيذ لبنان التزامه المادي تجاه المحكمة، الأخيرة من التزاماتها تجاه لبنان، وفي مقدّمتها الكشف عن تقريرها المالي السنوي بحيث يمكن للبنان ومن خلاله حكومته وشعبه، معرفة كيفية صرف الأموال في الطريق المناسب ووجهتها الصحيحة، لأنّه لغاية الآن، وبعد مرور سنتين وعشرة أشهر على ولادتها القيصرية، لم تفصح المحكمة عن أيّ تقرير يتناول طريقة صرف ميزانيتها، لا تلك الخاصة بالعام 2009- 2010، ولا تلك المحدّدة للعام 2010- 2011، فلا لبنان يعرف، وهو مشارك أساسي فيها لكونها تحمل اسمه، وإنْ كانت مخصّصة لجريمة طاولت فرداً معيّناً، ولا الدول الأخرى المساهمة تدري بطريقة الصرف، وإنْ كانت معظم هذه الدول غير مبالية بما تدفعه من مال، لأنّ غايتها الرئيسة هي تحقيق مكاسب سياسية من المحكمة ومنها الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، وهي التي تضغط بقوّة من أجل إنشاء المحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، ثمّ ما تلبث بعد انتهاء مفعولها السياسي أن تتراجع عن دعمها ودفع حصّتها المالية فيها وترمي شعارات العدالة والافلات من العقاب في سلة المهملات.
 ولبنان هو شريك أساس في بناء هذه المحكمة ولا صحّة على الإطلاق لما يردّده بعضهم لغايات سياسية، من أنّ رأي لبنان من خلال حكومته، استشاري، فهو على العكس تماماً، رأي إلزامي ولا يمكن العبور فوقه وإغفاله، إذ كيف يمكن للأمين العام للأمم المتحدة على سبيل المثال أن يعيّن قضاة لبنانيين من دون أن يكون هؤلاء القضاة قد سمّوا من قبل الحكومة اللبنانية بعد اختيار مجلس القضاء الأعلى لهم؟ فهل يمكنه أن يحلّ مكان الحكومة اللبنانية في تسميتهم وانتقائهم؟
طبعاً لا، لأنّه إنْ فعل، فهو يدرك أنّه تدخّل في سيادة دولة مستقلّة وتجاوز دستورها ووجودها ككيان قائم بحدّ ذاته، ولا يحقّ لمجلس القضاء نفسه أن يرفع الأسماء إلى الأمم المتحدة مباشرة من دون المرور بالحكومة اللبنانية، فهو «سلطة دستورية» في الجمهورية اللبنانية وليس دولة خاضعة للأمم المتحدة، وبالتالي أليس من حقّ لبنان أن يعرف كيف تصرف المحكمة الأموال التي تأتيها من دول لا تقدّمها منّة وإحساناً وهدّية، وإنّما لغايات وأهداف محدّدة ظاهرها المعلن إرساء العدالة ومنع المخالفات والتجاوزات والجرائم والحروب، وباطنها أمور أخرى؟
ومن البديهي القول إنّه يفترض بمحكمة غايتها إحقاق الحقّ، أن تكاشف كلّ المتبرّعين والمساهمين بتزويدها بأوكسجين الحياة وعصب بقائها وديمومتها، بتقرير يبيّن بوضوح كيفية حصول النفقات وعدم الاكتفاء بجردة سنوية كلامية تكتفي بتعداد أسماء الدول المساهمة… خاصة أننا على عتبة ميزانية السنة المقبلة التي يقال إنها ستتضاعف بسبب انطلاقة المحاكمة.
وإذا كان هناك من مانع يحول دون قيام لجنة الإدارة في المحكمة بهذه المكاشفة الصريحة، فلتؤكّد ذلك علناً وتخبر عنه، إلاّ إذا كانت هذه المحكمة تحبّذ الطريقة الغيابية في كلّ شؤونها على غرار المحاكمات الغيابية، مع أنّها تهوى الإعلان عن تجرّدها وحيادها في تصرّفاتها في مختلف البيانات الصادرة عنها.
وليس من حقّ رئيس المحكمة القاضي النيوزلندي السير دايفيد باراغوانث أن يرفض التصريح عن كيفية صرف الأموال وهو الذي يرئس بطبيعة الحال، لجنة الإدارة.
ثمّ أنّه أليس من حقّ لبنان أن يكون عضواً في لجنة الإدارة أو المجلس الأعلى للإدارة؟ فكيف يغيب عنها وتحصر عضويتها برئيس المحكمة والمدعي العام ورئيس القلم ورئيس مكتب الدفاع ولا يوجد لبناني يرئس واحدة منها، ويقتصر الحضور اللبناني على النيابة والمركز الثاني كنائب رئيس المحكمة ونائب المدعي العام على ما تنصّ قواعد الإجراءات والإثبات، وإنْ وصلت الرئاسة إلى لبناني ولو موقّتاً، أحيلت فوراً إلى آخر أجنبي كما حدث عند استقالة القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيزي من الرئاسة، فحلّ باراغوانث مكانه وليس القاضي اللبناني رالف رياشي.
ولماذا لا يجري تعديل الفقرة (دال) من المادة 38 من قواعد الإجراءات والإثبات التي تجيز لكلّ من نائب الرئيس، ونائب المدعي العام، ونائب رئيس مكتب الدفاع، ونائب رئيس قلم المحكمة، أن يمثّل رئيسه في هذا المجلس، فتزال عبارة «يجوز» لمصلحة تثبيت الحضور وإلزاميته باعتبار أنّ نائب الرئيس ونائب المدعي العام ونائب رئيس مكتب الدفاع هم لبنانيون؟
إنّ إعلان رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي عن دفع لبنان حصّته البالغة 32 مليون و184 ألف دولار أميركي هو انتصار شخصي له على تيّار المستقبل الذي كان يهوّل عليه ويطالب بتمويل المحكمة مع إدراكه المسبق بأنّ التمويل لا يقدّم ولا يؤخّر في مسار المحكمة ما دامت هنالك أبواب أخرى بديلة كأن يعثر الأمين العام للأمم المتحدة عن دولة أخرى قادرة على سدّ هذا النقص.
وما فعله ميقاتي هو ضربة موفّقة حافظت على حيويته ليس في الشارع السنّي فقط، وإنّما لدى كلّ اللبنانيين الذين يطالبون بتحقيق العدالة الحقيقية الخالية من التسييس… ولننتظر الاستحقاق التالي والأهم في آذار 2012. 

السابق
نشاطات الإسكوا الثقافية في يوم التضامن العالمي
التالي
اليوم العالمي للسيدا: السريّة حقك 100%