الربيع العربي.. خريفٌ رجعيّ

إنها تونس، حيث اندلعت أولى الثورات الشعبية العربية العلنية حديثاً ضدّ أنظمة الحكم الموجودة في بعض الدول العربية. ومع بداية هذه الثورات، اتسعت شريحة الشباب العرب المؤيدين لها، فوجدنا كيف أن اللبنانيين تحمّسوا لسقوط زين العابدين بن علي، ووقفوا وقفة تضامن مع ثوار «25 يناير» قبالة السفارة المصرية في بئر حسن، وكيف هللوا لسقوط مبارك، وملأوا صفحاتهم الفايسبوكية مواقف مؤيدة أو شاجبة لرئيس اليمن، وكيف انقسموا حول ما يجري في البحرين وليبيا، فمنهم من ندّد بقمع الثورة البحرينية وبالقذافي، ومنهم من لزم الصمت، لكن الغريب، أن الصامتين جلّهم ممن لم تهدأ حناجرهم صراخاً ضدّ بن علي ومبارك.

أما الانقسام الأكبر فكان حول ما يجري في سورية، إذ ان معظم اللبنانيين يدركون تماماً أن سورية هي المعقل الأخير لا بل الوحيد إلى جانب لبنان في مواجهته مع «إسرائيل»، ويدركون تماماً أن سورية هي الداعمة للمقاومة، وأنها الدولة العربية الوحيدة التي ترعى بقيادتها وجيشها وشعبها مقاومة العدو الصهيوني، إن كان في لبنان، أو داخل فلسطين المحتلة. فوقف هؤلاء وقفةً تضامنية في الصميم، معللين وقفتهم بقراءة معمّقة لحجم المؤامرة التي تتعرض لها سورية خصوصاً، والعالم العربي عموماً، مقاربين في قراءتهم التاريخ القديم والحديث، والأحداثَ التي عصفت بالمنطقة من احتلال العراق إلى اغتيال الحريري، وعدوان تموز 2006 على لبنان، والعدوان على غزة عام 2008، رابطين تلك الأحداث بتصريحات أميركية و«إسرائيلية» وأوروبية، تلتقي كلها حول مشروع اتخذ تسميات عديدة، من خريطة الطريق، إلى الشرق الأوسط الجديد. 
أما الفريق اللبناني الآخر، وجلّه من المناهضين للمقاومة وخطّها على مدى عقودٍ من الزمن، فقد استفاقوا أخيراً على نصرتهم لما أسموه «الشعب السوري المسكين»، هذا الشعب الذي كانت ميليشياتهم تلاحقه في شوارع بيروت، فتعتدي على عماله، وتضرب طلابه، متماشين مع حملة التضليل الإعلامي الذي تقوده كل من «الجزيرة» و«العربية» و«المستقبل» وغيرها من القنوات العربية، و«بي بي سي» و«فرانس 24»، و«سي أن أن» الأجنبية، فيصوّرون العصابات المجرمة التي تفتك بالمواطنين السوريين والجيش والأمن، مجرّد شعبٍ مسكين مضطّهدٍ، يقمعه الأمن السوري الذي سرعان ما ألصقوا به تحوير مصطلح «البلطجية» فأصبح عناصر الأمن «شبيحة».
لكن المهللين لسقوط أنظمة تونس وليبيا ومصر، والمراهنين على سقوط القيادة في الشام، خُذِلوا بما آلت إليه الأمور، فمن كان يحلم بدول ديمقراطية ومدنية، يحكمها العقل العلماني الذي يعتبر الطريق الصحيح والأسلم والأنجع نحو التطور والحرية والتقدم، فوجئ بتنامي الحركات «الإسلامية» فجأة في تلك الدول، وبدعمٍ أميركيٍ وأوروبيٍّ واضح، حيث تحالفت الحركات السلفية في مصر مع «الإحوان المسلمين» الذين لم يتوانوا عن الإعلان عن أنهم مع كل بنود اتفاقية «كامب ديفيد» المشؤومة، وأنهم مع بقاء هذه الاتفاقية، وليسوا في وارد إعلان الحرب أو العداء على أحد، والمقصود هنا «إسرائيل»، وليس غريباً أن تبقى سفارتها قائمة في القاهرة إلى الآن. كل ذلك يدحض بالدليل القاطع أنهم يفعلون عكس الشعارات التي كانوا يتحفون بها الجماهير منذ زمن، حيث كانوا «يعارضون» النظام المصري البائد في هذا الشق: العداء مع «إسرائيل».

ولعلّ ما يدعو أيضاً إلى الاستغراب في مصر، تحالف الحركات السلفية مع «الإخوان المسلمين»، حيث أن من المعروف تاريخياً، عمق الهوة بين «الإخوان» والسلفيين، وخلافهم الجذري في ما يتعلق بالعقيدة الدينية وممارساتها، ولا غرابة أن يترجم هذا التحالف خدمةً للمصالح الأميركية والصهيونية.
وتتضح الصورة يوماً بعد آخر، أن الهدف هو إعادة «الخلافة الإسلامية» إلى اللوحة العربية مجدداً، أي تحويل الحكم إلى ديني قائم على أسس الشريعة الدينية، والدولة من مدنية حضارية إلى دينية رجعية تعيدنا 1400 عام إلى الوراء.
وليتخيّل المواطن العربي مصرَ ـ «هوليوود الشرق» ـ من دون فنون، ومن دون سينما أو دراما، ففي حال تسلّم الإخوان او الإسلاميون الحكم، كيف ستكون الصورة الحضارية لهذا البلد؟ حتماً، وبِاسمِ الدين ستتلاشى السينما، وتصبح الفنون على كل أشكالها، من مسرح، ودراما، وشعر، وأدب، ورسمٍ وتصوير، تراثاً مندثراً يحرّم على كل مصري نبشه وإعادة إحيائه.

أما على الصعيد الشعبي، وقد بانت البوادر منذ فترة وجيزة لا تتعدى الشهر، فستعيش مصر في أتون الفتنة الطائفية، لا سيما بين المسلمين المتشددين والأقباط، ولن تخرج من هذا الأتون إلا بعددٍ كبيرٍ من الضحايا.
وحتماً ستلغى كلمة «مدنية» من الدستور المصري، أما العلمانية فتصبح إلحاداً وفجوراً تعاقب عليهما الشريعة، والمرأة لا دور لها سوى بملازمة منزلها الوالدي أو الزوجي، و«كل ما تنطق به من حقوق حرام».
هذا قليلٌ مما يمكن رؤيته في المستقبل على خلفية ما سمي بـ«الربيع العربي»، فأي ربيعٍ هذا الذي يعيد الشعوب مئات الأعوام إلى الوراء، ومع احترامنا للإسلام كدينٍ ينظم حياة البشر وينقّي النفوس، إلا أن التاريخ أثبت أن الدين متى اختلط بالسياسة بات وبالاً هدّاماً يؤخر حياة الأمم ولا يتقدم بها.
ألم يعِ العرب بعد أهمية الثورات الصناعية في أوروبا، التي نقلتها من الحكم بِاسم «الكنيسة» الذي كان يغرقها في دياجير الجهل والتخلف وعداء العِلم، إلى الحكم العلماني الذي حملها بين راحَتَيْه إلى دنيا التطور والاكتشافات والاختراعات ومن خلال ذلك إلى السيطرة على العالم بقوة العِلمِ والمال؟

إن الانحراف المقصود في مسار «الربيع العربي» والذي أرادته أميركا و«إسرائيل» منذ بداياته، لا يشير إلا إلى «خريفٍ» لا يليق بكلمة «ثورة» حتى يتبناه العرب لا سيما الشباب. إن كل حرية ما لم تكن نابعة من إرادة الشعوب هي باطلة، ولعل أكثر ما يستحضرني هنا قول للزعيم أنطون سعاده: «إن لم تكونوا أنتم أحراراً من أمة حرّة فحرّيات الأمم عارٌ عليكم».
أمَّا لأميركا ومن يدور في فلكها عالمياً وعربياً فنقول: إن من يدعم الحركات المتشددة كيفما كان شكلها أو مهما كان اسمها، فإنه سيقع حتماً بما وقع به مَنْ دَعَمَ بن لادن سابقاً، إذ أن الأخير تخلى هو عنهم عند أول فرصة سنحت له».
ومن لم يعِ بعد أن وطننا والعالم العربي أمام كارثةٍ حقيقيةٍ فهو إما جاهلُ القراءة بين السطور، أو مدركٌ حجم المؤامرة، فيعتبر مشتركاً بها، إما لصمته أو لضلوعه مباشرة بتفاصيلها.
ومن لم يدرك بعد أن الحرية والديمقراطية والتقدم والتطور والرقي والقوة لا يمكن أن تتحقق إلا بزوال «إسرائيل» من الوجود، وقيام وحدة المجتمعات كلٌ ضمن نطاقها الجغرافي الطبيعي، فهو واهمٌ ولا يمكن لصيدلية أميركية، أو أي إرادة أجنبية، أن تزوده بالدواء الناجع، لأن هذا الدواء تختزنه إرادته هو.  

السابق
الكتيبة الكورية تجهّز قاعة لـمدرسة طير دبا الرسمية
التالي
شجرة لعيد الميلاد من الذهب الخالص في اليابان