حصانة مصرية..

تضيء الحوادث المستجدة في مصر على مسلّمات أساسية فرضتها التغييرات العميقة فيها، قبل أن تفرضها حسابات موازين القوى والصراع الناشب على السلطة، وغير ذلك من أجندات بعضها معلوم وجلّها مكتوم.

هي بمعنى ما، حوادث تعبّر عن مناعة الحراك الشعبي إزاء أعطال أو أضرار أو أخطار قد تصيبه في المرحلة الانتقالية الفاصلة بين نظام آفل وآخر آتٍ. كما انها شهادة مُثلى على بقاء مسببات ودوافع النزول الى الشارع عصية على الكسر أو النخر.
رَفضْ الاذعان لسلطة غاشمة في عُرف المنتفضين عليها، ورفض البقاء تحت أسر نظام أمني مغلّف ببراويز ديموقراطية في ظاهرها ليس إلا، ورفض الاستمرار في الخضوع لبنية سلطوية صادرت الحريات والثروات ومعست بالأرض كل مسلّمات حقوق الإنسان… ذلك الرفض المساوي في مجمله للثورة بمفهومها اللغوي والاجتماعي (وليس في توصيفها) هو مُعطى تحصيني دائم يسري على ما خلف كما سرى على ما سلف.

وفي ذلك التحرك الرفضي المستَجد، رد سريع وشفّاف وبالغ الصلابة على أسئلة القلق البريئة والخبيثة الخاصة بالمستقبل وحيثياته وقواه.. وملخّص الرد ان حصانة القوى المتحركة إزاء عودة أي استبداد، أياً كان عنوانه وثوبه (مدنياً أو عسكرياً) هي حصانة تأسيسية لا تتضعضع. ولا تشكل المرحلة الانتقالية المليئة بالثغر والفراغات وغياب أو ركاكة أدوات حفظ النظام العام، أوراق قوة لـ"الثورة المضادة" بقدر ما هي أدوات قوة إضافية للحراكيين الأوائل المنتفضين من أجل حريتهم مهما تنوعت ترجمات تلك الحرية: في الانتخابات والاقتصاد والتعليم والتعبير، ووضع كل شيء في مكانه: العسكر في ثكناته، والأمن في مخافره واختصاصاته، والقضاء في محاكمه، والمال العام في مصرفه المركزي العام (وليس الخاص)..الخ.
 كثيرون انتابهم القلق إزاء تطورات مصر في الأيام الماضية. ومن هؤلاء من وجد فيها نافذة يطلّ منها ليصيح مرة أخرى برفض التغيير بسبب قصور مقيم في مجتمعات غير معتادة على أنماط التغيير السلمي. ومنهم أطلّ منها لتبرير اصطفافه الى جانب دوام الطغيان وأنظمة المافيات. ومنهم أطلّ منها ليعاود تعبئة وتنظيم صفوفه التي تشرذمت وتشظّت، لكن كل هؤلاء قادرون ربما على إنتهاز اللحظة الراهنة واستثمارها، لكنهم بالتأكيد ليسوا قادرين على فرض الخواتيم التي يريدونها.
تحرّك الشارع (مرة أخرى) هو غير التحرك الحزبي المنظّم. وغير الانقلاب العسكري والبيان الرقم واحد. وغير السعي المؤامراتي الموصول بإرادات خارجية.

انه أمرٌ قائم في ذاته. قوته في غياب أطره التنظيمية والتوجهات الفوقية. ورسالته الأولى البسيطة والدائمة هي رفض الاذعان لأي سلطة غاشمة. أو لأي مشروع يحمل في جيناته تلك السمات الاستبدادية!
والمعطى الرفضي المذكور يبقى، عدا عن ذلك وإضافة إليه، صمّام أمان إزاء الخريطة الأوسع لليوم التالي. أي لما بعد الأنظمة والسلطات القائمة والجائرة.. في سوريا يدبّ التبصير والتنظير لما سيحصل بعد سقوط سلطة الأسد، والبيان الممانع المضاد للثورة السورية يضع في قمّة كلامه، الخوف على الأقليات الدينية والمذهبية والمخاطر المحدقة بها. وفي تونس سبق ان رُفعت شمّاعة الأصوليين والسلفيين جنباً الى جنب. وفي اليمن كذا الحال وفوقه "القاعدة" وقصّة الحرب الأهلية. وفي ليبيا كل تلك المخاوف مجتمعة.. غير ان جرأة أدبية منتقاة من التحرك الشارعي وطبيعته تكفي للقول: ان الربيع العربي هو نتاج العصر وآلياته وطبائعه. وفي تلك الطبائع ان الحرية عابرة للحدود الكيانية والطائفية والمذهبية. وان مُعطى تداول السلطة في حدّ ذاته كافٍ لإنتاج الدولة الديموقراطية. وان هذه كافية لأخذ الناس كمواطنين فيها، وليس كرعايا في هذه الطائفة أو تلك!
لكل ذلك، تحضر جرأة القول: ان مصر تؤسس في ثورتها الثانية، لضمان ديمومة الربيع العربي الأول، في مواجهة مشاريع خريفية بائدة..والى الأبد! 

السابق
موسى: لحوار وطني يشمل جميع الافرقاء
التالي
حوري: 30 الحالي سيكون يوم إستقالة الحكومة