مصادر النزاع في العراق

مع اقتراب نهاية الوجود العسكري الاميركي لا يزال الانتقال السلمي – المؤسساتي في العراق يواجه شبح النزاع الاهلي بين الطوائف والإثنيات وداخلها، على احتكار او تقاسم السلطة السياسية والموارد (ريوع النفط =120مليار دولار هذا العام)، ويواجه اشباح عنف الجماعات والمافيات، مضعفاً الأمل بالاستقرار في نمط معتدل من الديموقراطية ذات المسحة الطائفية غير المسلحة.

تندرج في النزاع قوى شتى. وإذا كان التقسيم الثلاثي (عرب سنّة، عرب شيعة، كرد) يضعف خطوط الانقسام الناجم عن عوامل التفاوت الطبقي (فقراء، طبقات وسطى) والتجزؤ القبلي والانقسام الجهوي (مناطق) او التنافرالاجتماعي-الثقافي (ارياف-مدن)، إلا أن هذه القوى الفاعلة تحترب و/ أو تتنافس، سلماً او عنفاً، لرد مظالم الحاضر او الماضي، الفعلي منها والمتخيل.

النزاع الدائر في الاطار الوطني (أي في العراق كوحدة سياسية-اقليمية) يتمحور حول مفهومين اساسيين هما: بناء الامة وتكوين الدولة. هاتان عمليتان متطابقتان في الامم المتجانسة لجهة اللغة والدين والثقافة، ما يستبعد الانقسامات الطائفية والدينية والإثنية. اما في الامم غير المتجانسة فعملية بناء الامة منفصلة عن عملية تركيب الدولة ومتداخلة معها، أي معطلة.

بناء الامة يتعلق بفتح المشاركة لكل الجماعات (إثنياً او دينياً) في المؤسسات، والمشاركة في الموارد (الاقتصاد والنفط). اما تكوين الدولة فيتعلق بإنشاء مؤسسات الادارة وأجهزة العنف على قاعدة الشرعية (الديموقراطية)، واحتكار وسائل العنف الشرعي. تلازم هذين الجانبين يولد أمة مستقرة، اما تنافرهما فمفجّر للنزاع. ومستقبل العراق مثل ماضيه مرهون بتوازن أو نجاح عملية توافق بناء الامة وتكوين الدولة.

العراق، شأن بلدان نامية كثيرة، كان دولة تبحث عن امة.

فنشوء العراق الحديث جرى في مرحلة ما قبل قومية، بسبب طابعه الزراعي، وتشظي مجتمعه، وضعف شبكات التبادل والاتصال والتواصل الحديثة.

الوطنية العراقية تمركزت، مثلاً، على تفاهم مركزي شيعي – سنّي بزعامة جعفر ابو التمن (مؤسس الحزب الوطني) وضمانات للاكراد، وذلك بخلاف ايران، مثلاً، حيث تندمج الوطنية الايرانية بالمذهب الشيعي، الجامع للفرس والاذريين (والعرب بحدود) والكرد.

وكان باني العراق، الملك فيصل الاول، واعياً بهذه القاعدة اللازمة لبـناء الوطنية الوليــدة. وقـــد اعتمـــد العهــــد الملكــي على طبقة كبار ملاك الارض، التي مثلت التنوع المذهبي والإثني.

الانقلابات العسكرية منذ 1958 دمرت طبقات ملاك الارض الكبار، وفتحت باب صعود الطبقات الوسطى، من ناحية، وهشمت من ناحية اخرى ميكانيزمات التكامل الوطني اللازم لبناء الامة. وعملت النظم العسكرية – على تدمير المؤسسات: المحكمة الدستورية، البرلمان، القضاء المدني، واستبداله بقضاء عسكري، وفرضت وضعاً تسلطياً. هذه العملية تسارعت في عهد البعث الثاني (1968-2003) الذي فرض هيمنة احتكارية مطلقة على السياسة والاقتصاد والثقافة والمعلومات، وهمش عملياً كل ما يقع خارج «الحزب القائد» جماعات وأحزاباً.

وبذا تهشم بناء الدولة – المؤسسات لتتحول الى دولة شخص، واضطربت ميكانيزمات بناء الامة.

وبصعود الاسلام السياسي (خصوصاً بعد ثورة ايران في 1979)، تحول مناخ الثقافة السياسية من الايديولوجيات الحديثة الى سياسة الهوية الطائفية والدينية والإثنية.

وأدت المغامرات العسكرية (حرب ايران، حرب الكويت) الى استنزاف قدرة الايديولوجية الرسمية، وتقويض القدرات المادية للدولة كجهاز حاكم، بعد انهيارها كممثل للجماعة الوطنية (فقدان الشرعية).

صارت سياسة الهوية في عراق ما بعد الانتقال (2003 فصاعداً) عاملاً حاسماً في تكوين النزاعات وإزكائها او اخمادها، كما في بلورة طبيعة النظام السياسي للدولة بشقيها كجهاز للحكم وكممثل شرعي للجماعة الوطنية.

الفهم الواضح لسياسة الهوية في العراق يتأسس بنظرة مقارنة مع سياسة الهوية في مناطق اخرى. فمثلاً، انهيار فاعلية الايديولوجيات الاممية في الاتحاد السوفياتي السابق ويوغوسلافيا السابقة، دفع النخب الحاكمة الى احلال الايديولوجية القومية (الوطنية) التي حبست الصراع في هاتين الرقعتين في قفص الاحتراب القومي، الإثني، واشتد ذلك بانهيار الاقتصاد المركزي.

اما في العراق فاتخذ تقوّض الفاعلية الاقتصادية للدولة وفاعلية الايديولوجية الاشتراكية – القومية الرسمية مسار احلال الدين والقبلية كقوى اجتماعية بديلة (الحملات الايمانية، ارجاع القبائل وإعادة تأسيسها ادارياً). في غضون ذلك كانت كردستان في وضع دويلة مستقلة كأمر واقع. وأدى صعود القومية الكردية الى تحفيز قوى التركمان والاشوريين لتأسيس هويتهم الاثنية بإزائها، وبذلك انتشر هذا الشكل من التعبئة والفعل على اساس الهويات الصغرى.

صعود سياسة الهوية، كان اعلاناً عن واقع تهشم الوطنية العراقية الجامحة، كما عن ضرورة اعادة تأسيسها. الحلول التي تبلورت قبل 2003 في اطار القوى الفاعلة تمحورت حول الفيدرالية، واللامركزية، اما بعد 2003 فأُضيف اليها عنصر آخر: التوافقية.

ولكن ينبغي التنبيه الى ان الجماعات المؤسسة على الهوية الاثنية او الدينية او المذهبية ليست كتلاً صوانية. فهذا الجلمود الظاهر مفتت داخلياً بتنظيمات وميول اجتماعية: الطبقة (فقراء المدن مثلاً) والثقافة (حضر- ريف) والجهة (جنوب، هويات مدن الخ) والقبلية، فضلاً عن الانقسامات الايديولوجية (داخل الاسلام سياسي مثلاً كما خارجه). هكذا باتت الهويات تضم كتلاً فرعية، متنافسة ومتعارضة وسط الجميع.

ارث الماضي ووقائع الحاضر تقدم لنا عدة عناقيد لمولدات النزاع. لكن الأبرز هو النزاع بين ميول الحكم الاغلبي والحكم التوافقي. الاول ينطوي على احتكار، والثاني على مشاركة. الميل الاغلبي ناشئ عن الاعتقاد بأن الاغلبيات العرقية او المذهبية هي اغلبيات سياسية بالتعريف، على رغم ان الجماعات ليست متجانسةً، وأن الاغلبيات السياسية قد تتشكل بصورة عابرة للجماعات. تفاقم الميل الاغلبي مشكلات احتدام الصراع الفيدرالي (بين المركز – بغداد، والاقليم – كردستان)، او صراع آخر بين النزعة المركزية في بغداد بمواجهة اللامركزية الادارية للمحافظات. كما تتجلى في احتكار الاجهزة الادارية والعسكرية احتكاراً يقوض الحكم التوافقي والاطار الفيدرالي معاً، كما تتجلى في اشتداد النزعة المركزية بإزاء الهيئات المستقلة، والقضاء، اشتداداً ينطوي على عواقب وخيمة لجهة الاستقرار. وسيكتشف المحتكرون ذلك بسقوط أحجار البناء على رؤوسهم لحظة ينهدم البناء.

السابق
قبلان قبلان انتقد قرار الجامعة العربية بحق سوريا: لن نتذكر الا انها تآمرت على لبنان
التالي
بعثان: مسؤولية بغداد حيال دمشق