ميقاتي المسكون بالحسابات والمخاوف

مع ان الزيارة لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي كانت سريعة كونها زيارة تعارف، ومع ان الاحاديث التي تم تناولها معه كانت عبارة عن خطوط عامة تم التطرق اليها بشكل برقي، على امل ان يكون اللقاء الاول فاتحة للقاءات متتالية، فإن زائر سيد السرايا الحكومية يخرج باستنتاج انه يسعى ليؤكد انه فوق صراعات قوى 8 او 14 آذار، وان هذين الفريقين اللذين يتقاسمان عملية اللعبة السياسية في البلاد ويملآن الدنيا ويشغلان الناس، يحاول كل منهما التأثير على قراره "المستقل" الذي يحرص كل الحرص على ان يبقى متمتعا بهذه الصفة ومحروسا بها، اذ يعتبر ان همه "مصلحة الوطن" بما تعنيه الكلمة.

وعلى هذا الاساس، يحلو للرئيس ميقاتي ان يقول صراحة ان موقعه في هذه المرحلة يشبه موقع الماكث في غرفة مريض في حالة صعبة، وهناك فريق يريد منه ان يخرج من هذه الغرفة، في حين ان ثمة فريقا آخر يضغط عليه ليبقى حيث هو.
ولأن ميقاتي يدرك تمام الادراك مبدأ الوضع في لبنان، وسدرة منتهاه، فإن زائره لا يحتاج الى كبير جهد ليعي ان هم الرجل الاساسي في هذه اللحظة هو تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وان "المعركة" التي عليه ان يخوض غمارها بلا اي وجل او مواربة هي هذه المسألة، وبمعنى ادق هي ايجاد توازن دقيق لجمع الامرين الاصعبين في هذه المرحلة وهما:
تأمين حصة لبنان في تمويل المحكمة الدولية والبالغة 49 في المئة من مبلغ التمويل.
اطالة عمر الحكومة الحالية التي ما زالت طرية العود تحبو في اشهرها الاربعة الاولى.

وبالنسبة الى الموضوع الاول، قطب الرحى لكل الحراك السياسي في البلاد وعليه يتوقف مصير الموضوع الثاني، يبدو ميقاتي امام زائره حازما جازما، انطلاقا من الاعتبارات المعروفة اياها، واولها ان عدم توفير الحصة المطلوبة من لبنان لتمويل هذه المحكمة، معناه ان وضع لبنان المالي والاقتصادي والسياسي سيكون على المحك.
واكثر من ذلك، لا يفوت ميقاتي ان يذكر ان عدم التمويل مدخل من مداخل تضييق حلقات الحصار المالي والاقتصادي على الشقيقة سوريا، بعدما سقطت في السابق العديد من الاحتمالات والخطوات التي جربت لاسقاط هذا البلد. 
وبالاجمال، ثمة "فلسفة" كبرى متكاملة الحلقات لدى ميقاتي، تجعله يلح في موضوع سداد لبنان لحصته من موازنة المحكمة الدولية، ولا يفوته ان يشير ولو لماما الى "حكمة ووعي" لدى "حزب الله" الطرف الاكثر عناية واهتماما بالمحكمة، ولادراك اخطار المغامرة في الحيلولة دون التمويل.
امران لا يحبذ ميقاتي الخوض فيهما في الوقت الراهن، وهما كيفية بلوغ "الهدف الاسمى" الان وهو التمويل، هل سيكون عبر مجلس الوزراء وهو العالم بأن دون ذلك صعوبات وعقبات اذا ما بقي خصوم المحكمة على موقفهم ام عبر منفذ اخر لا بد انه كامن في مكان ما؟
الاجابة الحصرية والوحيدة لدى ميقاتي عن هذا الموضوع: الاكيد ان هناك بندا ما وطريقا معينا يمكننا عبره تأمين المطلوب الذي يحول تحقيقه دون صيرورة لبنان برمته هدف تصويب من المتربصين به شرا. اما الامر الثاني، المتصل بإطالة أمد الحكومة، فالواضح ان ميقاتي لا يتحدث امام زائره بلهجة العابر سبيل في الحكومة، بل ان هذا الزائر يلحظ ان لديه "ثقة بالنفس" تؤهله ليخوض غمار تجربة طويلة في سدة الرئاسة الثالثة.
وعليه، فمن يجالس الرجل يلحظ بجلاء انه لا يأتي اطلاقا على ذكر الاستقالة او يلوح بها او يقول ما يفيد انها الخيار الثاني الجاهز لديه، ما لم يتح له خصوم المحكمة انفاذ ما تعهده في الداخل والخارج في شأن تمويل المحكمة.
وبالطبع ثمة من يقارن بين هذا السلوك المطمئن لميقاتي حيال ديمومته في منصب الرئاسة الثالثة، وما قيل سابقا ان الرجل ابلغ سابقا الى من يعنيهم الامر، ما مفاده ان استقالته من الحكومة جاهزة، اذا ما حالوا بينه وبين مسألة التمويل التي يقربها من باب انها مبتدأ الامر وخبره، وبالتالي يسأل هل ميقاتي قد بدأ يتصرف على اساس ان هذا التحذير والتلويح قد حقق مفعوله، واتى اكله، وبالتالي لا لزوم له بعد الان، ام ان الرجل "ينام" فعلا على معطيات جديدة تجعله اكثر اطمئنانا الى ما تحمله الايام القابلة من وعود وآمال، فضلا عن انه بات يتصرف على اساس انه صار حاجة كبرى لا يستغنى عنها ويستعاض كل من له صلة وعلاقة بالوضع اللبناني حاضرا ومستقبلا، وتلك المسلمة ما كانت لتكون لولا التجربة الرائدة التي جسدها ميقاتي خلال المئة يوم الماضية التي انقضت على شغله لمنصبه الحالي.

فواشنطن التي "حاصرته" لحظة قبول المهمة التي تصدى لها في اصعب الظروف بتهمة انه يرأس حكومة تأتمر بأوامر "حزب الله"، "ميزته" وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون، واستقبلته بحفاوة لافتة ابان حضوره الى نيويورك لترؤس اجتماع مجلس الامن.
وبالامس القريب، وجهت لندن له دعوة رسمية لزيارة "10 داونينغ ستريت".

وفي الوقت عينه لا يخفي المقربون من ميقاتي ان علاقة الرجل بالسعودية هي في اصفى حالاتها، وانه يمكنهم القول انه لا يشوبها شائبة، وانهم استطرادا لا يشعرون بأي مظاهر نفور من الرياض تجاهه.
ولا شك ان لهذا الامر "تقويما" وفلسفة متكاملة لدى هؤلاء المقربين من ميقاتي، فلديهم ما يفيد بأن في اوساط القيادة السعودية من عاد الى تبني النظرة التقليدية القديمة للموقف في لبنان والقائم على فكرة عدم حصر الزعامة السنية بيد شخصية واحدة، لان مثل هذه التجربة لم تعد ذات جدوى في المرحلة الراهنة.
وعلى المستوى الداخلي، يعي المقربون من ميقاتي ان شركاء ميقاتي في تجربة الحكومة الحالية صاروا يعرفون مكانة الرجل، ويدركون موقعه الاساسي في الحكومة التي يجاهرون بأهمية بقائها بالنسبة لهم وبسلبيات تحولها الى حكومة تصريف اعمال.
اما بالنسبة لخصوم ميقاتي المحليين، فإن المقربين منه وان كانوا يتبنون وجهة القائلين بأنهم قد بادروا في الاونة الاخيرة الى "تحييده" فهم ما برحوا يوجهون اليه سهام الانتقاد كلما وجدوا الى ذلك سبيلا، الا انهم (اي خصومه) قد اعيتهم الحيلة في الاونة الاخيرة، بعدما افتقدوا مادة حقيقية تبيح لهم انتقاده.

ولا يخفي المقربون من ميقاتي انهم يتوقفون مليا عند الذين ينتقدون ميقاتي من باب انه لم يؤسس بعد لتجربة السياسة الراسخة التي يعتد بها وتجعله يؤسس لزعامة سياسية، وانه يقارب الامور مقاربة العابري السبيل، ويؤكدون ان ميقاتي حقق الكثير من التقدم على مستوى المقبولية السياسية في الشارع السني ولدى الطوائف الاخرى، ويكفي انه بدأ يحظى باحترام وتقدير، وصار ينظر اليه النظرة الى رجل الدولة الذي يتعاطى مع الاحداث والتحولات بحكمة.
وفي كل الاحوال، في امكان زوار ميقاتي ان يخرجوا باستنتاج فحواه ان الرجل مطمئن الى ان البحث عن مخرج جدي لقضية التمويل قد بدأ اكثر من اي وقت مضى، والاطمئنان عينه موجود ايضا لدى الطرف الاخر المعني بالموضوع اياه. 

السابق
بطولة مـخجِلة!
التالي
أسبوع لبنان في فرنسا: أسواق جديدة