الأقلية حين تفقد دورها الوطني

المسيحيون قلقون على حرياتهم ووجودهم في المشرق. بعد فلسطين والعراق يسألون عن مستقبلهم في سوريا وعن موقعهم ودورهم في لبنان. هذه المسألة ليست خارج الموضوع ولا مفتعلة بل هي في صلب التفكير في حصيلة المتغيّرات العربية. المسيحيون كثقافة أو كهوية فرعية أو مكوّن اجتماعي يستشعرون صعود الهويات الفرعية الأخرى وتأثيرها على النظام السياسي. إذا لم يكونوا مستهدفين كجماعة بذاتها إلا أن البيئة تحاصرهم وتدفعهم إلى البحث عن خيارات.
لا تبرّد حرارة الموقف عظة تدعو الجمهور إلى ممارسة «شهادته» على هذه الأرض. يخسر الوجود المسيحي لأسباب كثيرة من بينها انخفاض منسوب الحرية في المجتمعات العربية وتوتر الجماعات الدينية وثقافة الأصوليات. الصهيونية في فلسطين كانت لها ولأسباب عقائدية خطة للقضاء على الوجود المسيحي. استخدمت إسرائيل في غزوها لبنان عام 1982 المسيحيين وقوداً لتعميق النزاعات الطائفية، وساهمت في كسر شوكتهم بعد أن حاولوا استدراك موقفهم ووقف تورّطهم في ما سُمّي «تحالف أهل العهدين»، الذي ما زال يرمز إليه شعار إحدى القوى الحزبية بالصليب المزدوج.

في العراق تشتت المسيحيون في لعبة الفرز الطائفي حيث لم يكونوا طرفاً سياسياً فاعلاً. وفي سوريا لا يملك المسيحيون جغرافيا يُحسب لها حساب في أي صراع يتجاوز السلطة إلى الدولة وهويتها.
أما في لبنان، حيث لهم «صخرتهم»، فقد تراجع دورهم القيادي وتأثيرهم على الحياة الوطنية وسط تجاذب قطبين طائفيين إسلاميين. فهم منذ نهاية الحرب الأهلية لم يعرفوا التكيّف مع نتائجها ولم ينتجوا، كما لم ينتج سواهم، مشروعاً وطنياً يجمع كل المكوّنات تحت مظلة دولة واحدة. قدّم لهم «السينودس» و«الإرشاد الرسولي» أفكاراً ومداخل للعبور من فكرة الهيمنة إلى فكرة الشراكة فاستهلكوها في لعبة المصالح السياسية الحزبية. يتنازع المسيحيين خياران: الأول هو خيار الانكفاء إلى حدود النواة الصلبة، أي إلى جبل لبنان جغرافياً، وإلى تأكيد هويتهم المستقلة في صيغ تحاكي أو تشبه الفدرالية، أما الخيار الثاني فهو الانخراط في لعبة التحالفات الطائفية بهدف إعادة إنتاج دور أكبر في الدولة المركزية. تأرجح الموقف المسيحي بين هذين الخيارين وانشق على صيغة التحالفات في ثنائية مارونية سنية أو مارونية شيعية.

في الحالين يتوجس المسيحيون من هيمنة هذا أو ذاك حيث البُعد الإقليمي. وإذا كانت النخب الطائفية الممسكة بالقرار قد سيطرت على المجال السياسي ولم يعد هناك حيّز مستقل خارجها، فلا يجد المسيحيون مرتكزاً مادياً تنهض عليه الآن فكرة الدولة المدنية، أو يتيح ممارسة السياسة في مشاريع عابرة للطوائف.

قاوم المسيحيون تطبيق دستور الطائف، كما سواهم، وفقدوا بذلك شرعية المطالبة بقانون انتخاب عادل. هم أعطوا تبريرات للآخرين كي يفصّلوا قوانين الانتخابات على قياس ما يدّعون من هواجس طائفية. في كل مرة يجري البحث في قانون الانتخاب تتصدر النخبة السياسية المسيحية الدفاع عنها وعن أقرانها لاستبعاد أي نظام يعيد فتح الحدود بين الجماعات ويؤدي إلى تعددية سياسية تكبح المصادرة الحالية.
فإذا كانت الكنيسة المارونية قد بادرت إلى فتح النقاش السياسي حول القضايا المهمة، ومنها قانون الانتخاب، فلن تخرج بأجوبة من تحت سلطة أصحاب المصالح الحزبية غير تلك التي تلائم نفوذهم. بل إن مثل هذه المبادرة قد تكون لها مضاعفات سلبية على باقي الجماعات الباحثة عن صيغة تلائمها. فمن العقم الحوار داخل الجماعة أو خارجها لتسويق خطط أو أفكار تقوم على امتياز لهذه الطائفة أو تلك. 
التوازن في البحث عن الامتيازات قاد إلى تفكيك البلد وبرّر، ولا يزال يبرّر، امتيازات أخرى. لقد صارت خصوصيات الطوائف خلف كل المشكلات المطروحة على المستوى الوطني. العدالة الدولية لطائفة والسلاح لطائفة والأمن والاقتصاد وغيرها ملفات طائفية. هكذا أضاف اللبنانيون إلى مشكلاتهم مشكلات، وصار مفهوماً موقف البطرك الماروني الذي عبّر عن قاعدة في تفكير الجميع بأن ما يحدث في سوريا ستكون له نتائج طائفية لبنانية. كل مَن انتقد البطرك أو أيّده يعرف هذه النتيجة ويريدها على طريقته ووفق مصلحته.

ليس لنا أن ندخل المدخل الثقافوي الذي أشاعته تصريحات رؤساء دول ومرجعيات كبرى حول الهيمنة الدينية أو حول الديموقراطية العددية. الديموقراطية هي عددية وليست أي شيء آخر. وليس من فضائلها أن تنتج حكم النوعية أو أن تحمي الأقلية ما لم ترتكز إلى قاعدتي الحرية والمساواة. فلا زالت معادلة الثورة الفرنسية صالحة لزماننا وهي: الأخوة والحرية والمساواة. تلك الثورة أنتجت مجتمعاً مدنياً ديموقراطياً لأنها ألغت جميع الامتيازات المرتبطة بثقافة القرون الوسطى. فلا يمكن أن تعيش الجماعات بأمن واستقرار لتحقق وجودها الإنساني طالما هناك امتيازات سلطوية لحماية الجماعة وهويتها وثقافتها. هناك ضمانة تقدمها الدولة للمجتمع حين تحتكر القوة لتطبّق قانوناً يُعرف بالعمومية والمساواة.

البحث عن صيغة كهذه هو ما ينقذنا من دكتاتورية الأقلية أو الأكثرية. فما لا تريده الأقلية لنفسها يجب أن لا تقبله لسواها. فلا يعقل أن نخاف استبداد الأكثرية فندافع عن استبداد الأقلية. ولا ننتج مجتمعاً سلمياً باختراع فكرة تحالف الأقليات، ولا بصيغة التوافقية الديموقراطية التي لا تعني إلا شكلاً من أشكال الامتياز للأقلية ما لم يكن ذلك محصوراً في ضمان المشاركة السياسية وضوابطها، لا أن يتحوّل إلى صيغة تقسيمية للدول والمجتمع كما تجري ممارستها عندنا.
ما يمنع الأكثرية في الممارسة الديموقراطية من أن تكون تسلطاً لثقافة دينية هو إخراجها من عقدة التسلّط عليها وتهميشها وإقصائها.

هذه ولا شك عملية تاريخية توازي العملية التاريخية بخط معاكس لصعود الإسلام السياسي من رحم أزمة الدولة العربية. حين يأتي الإسلام السياسي ليملأ فراغاً لا يقاوم إلا بقوى تملأ هذا الفراغ.
فإذا كان ما نعتبره «ظلامية» أو تطرفاً أو تزمتاً هو مصدر القلق فيكاد يكون ظاهرة شاملة كل الجماعات المأزومة بهذا الحصاد التاريخي لأنظمة لم تفعل إلا أن تحجزنا عن العصر. هذا النظام الإقليمي ساهم في إنتاج دكتاتوريات لبنانية طائفية. فهل ندافع عن هذه «الطائفيات» زمن انهيار النظام  

السابق
أحمد حبوس: سيكتب التاريخ بأحرف من ذهب موقف البطريرك الراعي
التالي
متعاقدو اللبنانية يعتصمون الخميس