كلام السيد البطريرك

كلام البطريرك بشارة الراعي في فرنسا مردود لأنه يتجاهل الوقائع الأساسية من جهة ويماشي الدعاية الإيرانية, السورية من جهة ثانية, حتى التي لم يقلها السوريون علنا بعد. البطريرك الراعي الذي كان تعود الظهور على وسائل الاعلام كل اسبوع لينظر تحت سقف بكركي التي قادها البطريرك صفير يومها, اعتقد ربما بأن عملية التنظير نفسها يمكن أن تستمر,ولكن مع التحرر من قيود صفير وخطه المتوازن والتمادي في اطلاق نظريات مبنية أحيانا على تصورات لا على وقائع.
نسي البطريرك الجديد ان لبنان الذي يمثل, ومسيحييه الذين يرأس, لم ينالوا من نظام دمشق أفضل ما يناله شعب سورية اليوم من العنف والتقتيل. وهو وربعه من المنظرين في التقارب مع هؤلاء لم يستطيعوا أن يطلقوا سجينا من سجون سورية حتى هذه اللحظة أقله الراهبان الأنطونيان. وهم إذ يتكلمون عن حقوق الأقليات وينادون من على المنابر بهذا الطرح, يستبقون حتى النظام الذي يدافعون عنه, فالرئيس الأسد لم يعلن مرة أنه يماشي تحالف الأقليات, ولا هو أصدر اي قرار يناقض مشاريع البعث في فرض سلطته على ما يسميه "سورية الكبرى", فأين حقوق الأقليات وأين استقلال الدول وكيف نحمي الشعوب من الظلم والديكتاتورية?

صحيح أن اللبنانيين لم يريدوا التدخل في شؤون الآخرين وجل ما كانوا يرغبون به أن يرفع الجيران أيديهم عن لبنان ليعيش بنوه في ظل حكم ديمقراطي حقيقي يحافظ على كل مجموعاتهم الحضارية ويسمح لها بالتعايش الإيجابي والمنتج جنبا إلى جنب. ولكنهم, وقد عانوا الأمرين من المتفرجين على مصائبهم ومعاناتهم من هذا النظام نفسه وألاعيبه طيلة أكثر من ثلاثين سنة, لا يمكنهم القبول بموقف المتفرج من دون اعطاء الرأي وخاصة لأن ما يجري عند جارهم ظلم ذاقوا طعمه في السابق وعرفوا قساوته.
لو كان العلويون في سورية كواحدة من مجموع الأقليات التي تعيش هناك هم المظلومون الذين يقاسون أنواع العذاب والتهويل والسجن, كان من الطبيعي على سيد بكركي الذي يمثل الضمير المسيحي الحي في هذا الشرق وأن يشعر معهم وينادي العالم لكي يخلصهم من ظلم الأكثرية, أما أن يكون النظام البعثي الذي يتلطى في ظل الطائفة العلوية ويتحكم بمصير كل الأقليات والأكثريات في سورية ويعاملهم بمعايير الظلم التي يعرفها اللبنانيون والمسيحيون منهم أكثر من غيرهم, فإن ما يقوم به سيد بكركي ليس في محله أبدا. فلا هو يمثل ضمير لبنان, ولا هو يمثل موقفا مسيحيا, ولا هو يمثل شعورا انسانيا مترفعاً عن المصالح الشخصية ومتطلعاً إلى قيام توازن في العلاقات الانسانية في هذا الشرق الذي يتململ ويتمخض بدون أن يصل إلى شاطىء أمان.

إن البطريرك الراعي ومع كل الاحترام للمقام الذي يمثله لم يتصرف بالقدر الكافي من المسؤولية في زيارته الأخيرة إلى باريس, فهو أعطى رأيا أمام وسائل الاعلام لا يمكنه أن يمثل موقف الموارنة, ولو كان بعض السياسيين منهم يركب هذا المركب, وهو مركب يخالف على الأقل رأي نصف اللبنانيين من كل المجموعات الحضارية كافة, وبالتأكيد يخالف رأي كل من فقد شهيدا أو تحسر على عزيز في سجون نظام دمشق أو تألم من سياسات القمع التي مارسها النظام السوري في وطن الأرز خلال ما يقرب الاربعين عاما. وسيد بكركي نفسه يعرف عن كثب هذه الأمور وقد عانى منها كل من حوله وليس آخرها سلسلة الانفجارات التي قطفت زعامة ثورة الأرز بدءا بالرئيس رفيق الحريري ومرورا بالوزراء والنواب والصحافيين وغيرهم من الوجوه التي غيبت بسبب مطالبتها برفع يد السوريين عن لبنان. وما يجري في سورية اليوم نسخة عما كان يجري في لبنان وآلام السوريين ما هي إلا صورة محلية تجسد لهم ما كان يتصرف به جنودهم وقادتهم عندما كانوا يحكمون لبنان. فهل يحق لأي من اللبنانيين المدافعة عن هذا النظام وأفعاله خصوصا إذا كان يمثل الكرسي الذي "أعطي له مجد لبنان" وقد استمر مدافعا عن الحق والحرية طيلة قرون من الزمن تبدل فيها الظالمون ولم يتبدل موقف من تربع على هذا الكرسي?

أما كلامه عن "حزب الله" وتفسيره لحمله السلاح فهو موقف مستغرب من رجل دين عرف عن قرب تفاصيل القرار الدولي 1559 الذي دعا لتجريده وغيره من التنظيمات من السلاح, وهو أيد من ساهم في تحقيق هذا القرار لأنه ككل اللبنانيين يرى فيه الخلاص من الفوضى والعدل بين كل مكونات لبنان وقطع الطريق على التدخلات الغريبة وفرض الرأي بالقوة والمتاجرة بقضية فلسطين, وهو تمنى أن يأخذ العدل مجراه ويحاكم المجرمون ومن أعطاهم الأوامر, فكيف به يدافع عمن صرح علانية بأنه سيحمي المتهمين ولن يقبل بمواجهتهم المحكمة. وكيف به يعطي دعمه لمن يمنع البطريركية من استعادة حقوقها في أراضيها ويمنع الدولة من بسط سلطتها على البلاد ويخفي لبنانيين خطفوا في عقر داره ويحرم أبناءه الجنوبيين من العودة إلى بلدهم بكل احترام, ويسجن طائفة بكاملها مع مثقفيها وأعيانها ومسؤوليها الروحيين في قمقم الحقد الذي يغذي مؤسساته التربوية والدينية? 
وقول البطريرك بالخوف من السنة وتأييدهم الأصوليين ومن سيحكم سورية بعد الأسد هو في غير محله وينم عن قصر نظر وذاكرة, فقد شارك سنة لبنان في كثير من الأحيان في بناء هذا الوطن وقيمه المنادية بالعدل والمساواة,ولا ننسى منهم في الماضي البعيد الامام الأوزاعي, وفي زمن الاستقلال الرئيس الراحل رياض الصلح وسامي الصلح وغيرهما, وفي الأمس القريب الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي أعاد للبنان رونقه وتقاليده في ريادة التقدم والتعاون. وإذا كان الدروز شركاء في الاستقلال عن السلطنة العثمانية فقد شكل السنة استمرارية هذه الإمارة مع الأمراء الشهابيين ثم فيما بعد الشريك في الاستقلال عن دول المحيط وفرنسا. وكان أملنا أن يكون للشيعة دور الشريك في الاستقلال عن تدخل الجيران إن من جهة إسرائيل أو سورية البعث التي أخضعت لبنان بكل طوائفه ومجموعاته فهم كانوا شركاء في صون الحدود منذ الوائليين وعلى رأسهم ناصيف النصار الذي له الفضل في رسم حدود لبنان الجنوبية, ولكن "حزب الله" لم يستطع الحفاظ على السلم الذي فرض عليه, بل قام بأسر هذه الطائفة وقيدها بمساعدة أئمة طهران ليجعلها إحدى ملحقات الاحتلال الفارسي وأدواته وتصبح وسيلة للقمع بدل التحرر والتمسك بالاحتلال بدل العمل على حماية الكرامة والاستقلال. ولذا فمن غير المقبول أن يبرر بطريرك إنطاكية وسائر المشرق لهؤلاء مقولتهم ونظرياتهم العدائية ولا أن يجاريهم في طروحاتهم.

أما استعداءه المجاني للولايات المتحدة الاميركية فهو في غير محله على الاطلاق, فلا هو في مصلحة المسيحيين, ولا هو في مصلحة لبنان, ولا هو في مصلحة المنطقة, وهو يناقض نفسه عندما يتكلم عن تفتيف المنطقة إلى كيانات طائفية بينما يدعي الدفاع عن الأقليات. فإذا كان هناك من تخوف على مصير الأقليات فإن إعادة تكوين الدول وانشاء كيانات تحمي هذه الأقليات يجب أن يكون مطلبه هو, أما أن يفرض حكم الأقليات على الأكثريات وفي الوقت نفسه تتحكم بظلم هذه الأكثريات فإن ذلك غير مفهوم ولا مقبول.
إذا كان النظام السوري يمثل حقيقة الطائفة العلوية في سورية أو حتى أقليات أخرى غيرها, عليه هو, وإذ يرى بأنه لم يعد قادرا على تمثيل كل عناصر المجتمع السوري, أن يطالب بمنطقة تحميه والعلويين ومن يرغب في أن يحتمي بهم, وعندها فإن ما يخافه السيد البطريرك ويدعي بأن الولايات المتحدة تسعى اليه رغما عن إرادة الشعوب قد يكون هو الحل, والمشكلة هنا هي في طرح الموضوع ونقيضه في الوقت نفسه. فإذا كان البطريرك يخاف على الأقليات في سورية من الحكم الآتي فالأجدى به أن يطرح حلولا منطقية كتلك التي يتهم الاميركيين بالسعي إليها, ولكنه تسرع على ما يبدو بطرحه فاختلطت عليه الأمور ووقع في تناقض فاضح لم نكن نرغب له به.

إن الهيبة والاحترام اللذين رافقا هذا الكرسي لا شك قد تعرضا للأذى من جراء تصريحات السيد البطريرك والتي كررها رغم ملاحظات العديد من المحبين, من هنا فإننا ندعو الله أن يمن على صاحب الغبطة بنعمة التواضع ومراجعة الذات والتنور بسير القديسين وخاصة من سبقه على هذا الكرسي, فيعرف أكثر بأن مهمته ليست مقتصرة على هذا الزمن الرديء, ولا هي لمجاراة المتغطرسين أو الجبابرة, ولكنها للشهادة للحق والتخلي عن أمور الدنيا في سبيل الله وعدله على خلائقه أجمعين. أما بقاء هذا السراج منارة تضيء ليل هذه المنطقة فهي مهمة عسيرة لا يمكن أن تماشي ظالماً ولا أن تساير مستبداً. 

السابق
الحياة: ميقاتي بعد لقائه الراعي في الديمان: مواقفه نتيجة حكمة ولا يتراجع عنها
التالي
الراي: تطويق الدعسة الناقصة للراعي للحد من الأضرار وحماية مكانة البطريركية