المشهد العربي من اسطنبول

تحوّل الزعيم التركي رجب طيب أردوغان إلى الشخصية الأكثر إثارة للجدل في العالم العربي. يحشر أردوغان أنفه في كل الملفات والقضايا. بعد الإعجاب الشديد بمواقفه من قضية فلسطين وتصرفه بعنفوان تجاه الحكومة الإسرائيلية، بدأ يخسر هذه الصورة في تصرفاته تجاه سوريا وتتهمه بعض الأوساط بالنزعة الإمبراطورية. يتحدث الزعيم التركي بوصفه قائداً لتجربة إسلامية حديثة في دولة مهمة في تاريخها وموقعها.

لكن حين نبحث عن دوره الفعلي لا نجد إلا وكيلاً متمسكاً بوكالته عن الغرب. يتحدى إسرائيل في مواقفه السياسية لكنه يطمح إلى المنافسة معها في الدور الإقليمي لا إلى مواجهة المشروع الذي تنتمي إليه. يحتضن القواعد الأميركية ويمارس عضوية كاملة في الحلف الأطلسي، ويستقبل «الدرع الصاروخية»، التي تطاول وظيفتها جيرانه العرب وإيران وروسيا. في مكان ما يطمح إلى دور الإمبريالية الفرعية بخطاب إسلامي من لون مختلف عن الخطاب الإيراني المتشدد. بدأ يمارس دوره الإقليمي في إحجامه عن التورّط في الحرب على العراق، ثم تدخل في الملف الفلسطيني والسوري واللبناني والليبي بأشكال مختلفة، ويجول الآن في العالم العربي من مصر إلى تونس إلى ليبيا كمرشد للثورات العربية.

ليس كل ما يدّعيه أردوغان من دور لتركيا يمكن أن يتحقق. غير أن المؤكّد أنه حجز مقعداً لتركيا في النظام الإقليمي الجديد في الفراغ العربي، متموضعاً في ما صار يُعرف بـ«الإسلام السني» ومصالحه ومستقبله في مواجهة «الإسلام الشيعي الفارسي» الإيراني. ثنائية أردوغان ـ أحمدي نجاد، تناقضهما وائتلافهما هي الصورة الأكثر بؤساً عن الواقع العربي. يفترض العرب تاريخياً أنهم أعطوا الإسلام للآخرين. يأتي الفرس والترك ليعيدوا إليهم الإسلام بطبعته الإيديولوجية الخالصة.

إسلام الدول، إسلام السلطة، من إيران إلى تركيا مجموعة من العناوين والشعارات التي يصح فيها وصف «الشعوبية» السياسية، لأن ليس فيها أي مكان للمصالح العربية. بدأ الجمهور العربي يتطلع لحظة إلى إيران الثورة الإسلامية كرصيد عربي، وكذلك إلى صعود حزب العدالة والتنمية في ما هو مسألة حيوية، أي النظام الشرق الأوسطي الذي يمكن أن يتشكّل بمكوّناته التاريخية. التعاون السياسي والأمني والاقتصادي كان يفترض أن البيئة الثقافية الإسلامية المشتركة تعطيه دفعاً قوياً لتحجيم الدور المركزي الإسرائيلي في نظر الغرب. لكن في ما يظهر أن ليس هناك من تعاون أو تحالف من دون غلبة لطرف أقوى من أطرافه. استقوى الإيراني فتجزّأ الموقف العربي من إيران، واستقوى التركي فتجزّأ الموقف العربي من تركيا. يكاد العرب أن يكونوا في موضع التجاذب بين طموح القيادتين الإيرانية والتركية. هكذا تتصرف الدولتان الإقليميتان إيران وتركيا تجاه الأزمة السورية. في عمق المشكلة صراع على سوريا. الصراع على سوريا يمتد إلى أميركا وروسيا. لا أحد يبحث عن «النموذج السياسي» أو عن نموذج الدولة في سوريا بل عن موقعها في معادلة الصراع. حشرت الأزمة السورية جميع الأطراف الدولية لكونها عقدة المصالح الاستراتيجية.  
يتنازع كل الأقوياء سوريا «كقميص المسيح» كما وصفها المؤرخ هنري لامنس. يخاف الجميع من تمزيق سوريا ولا يستطيع أحد أن يقبل الوضع القائم فيها كم هو. يلعب النظام على التناقضات الخارجية ويستظل بها، لكنه لم يعد يملك الشرعية الشعبية والعربية نفسهما كما من قبل.
ينعزل النظام عربياً في أجواء النظام الرسمي الذي يتداعى اليوم، كما ينعزل في صورة الثورات العربية وما تطرحه من ضرورات للتغيير الديموقراطي. كلما اشتد التنافس الدولي والإقليمي وازدادت التدخلات الخارجية يظهر النظام في موقع التابع لطرف وليس في موقع المستقل أو صاحب المشروع العربي. أما في الداخل فهو أيضاً يعيش أزمة عجزه البنيوي عن التطور والتجديد والإصلاح والتغيير، بينما يضغط الجمهور في اتجاه تغيير لا يملك أدواته.
هذا التناقض المريع بين رغبات الشعوب العربية في التغيير وقدرتها على فرضه في مواجهة عنف الأنظمة وقدراتها المادية يضع المنطقة كلها في مرمى «الوصاية الدولية».

يشبك الزعماء الفرنسي والبريطاني والزعيم الليبي الجديد أيديهم ليعلنوا انتصارهم في ليبيا. يحضر مساعد وزير الخارجية الأميركية (فيلتمان) في خلفية المسرح الليبي كما اليمني ويدير المفاوضات. تهبط هيلاري كلينتون على ميدان التحرير في القاهرة لتبارك الثورة. ينضم برلوسكوني إلى الأطراف التي تخلّت عن صديقها العقيد الليبي الذي أغدق الهدايا والامتيازات. يجري تقاسم النفوذ الغربي بالأسهم لا بالجغرافيا هذه المرة. اصطدم الغرب بالمصاعب السورية لأن حدود هذه الدولة مفتوحة على كل مشكلات المنطقة. التلاعب بالجغرافيا السياسية لم يسمح لتركيا أن تشكّل حدوداً رخوة. يستعصي النظام في دمشق ويضرب وسيضرب في شعبه إلى زمن ليس بقليل لأن تفكيكه أشبه بتفكيك عبوة ناسفة معقدة التركيب. سوريا نواة المشرق العربي وصورة تشابك عناصره السياسية والبشرية.

إذا جاء التغيير بالعنف في سوريا فهو لعب على خيوط النسيج المتعدد الألوان. المعارضة السورية المبتدئة لم تنتج بعد هويتها الوطنية. يأخذ التغيير الديموقراطي صورة الاحتجاج الطائفي على الامتيازات الطائفية. يتصدّر التيار الإسلامي المشهد وتستنفر «الأقليات». لا أحد يباهي أحداً بالديموقراطية، خاصة إذا غلبت حركة الخارج على الهوية الغامضة للمعارضة في الداخل. تتغيّر سوريا الآن برغم كل المكابرة، لكنها لا تستقر إلا في إطار وفاق إقليمي ودولي مثل أي دولة تعتمد في صياغة دورها ووحدتها على السياسات الخارجية.  

السابق
نوبل !!؟
التالي
خليفة في ذكرى انطلاق جبهة المقاومة في صيدا