صالة واحدة على الأقلّ

لم يُفكّر أحدٌ من المستثمرين، المتكاثرين حالياً في توظيف أموالهم في شارع الحمرا والأزقّة المتفرّعة منه صعوداً ونزولاً، في أن يُعيد افتتاح صالة سينمائية واحدة على الأقلّ. أو أن يفتتح صالة سينمائية واحدة جديدة. الشارع متّسع لأمور كثيرة، لا تجد السينما مكاناً لها بينها. هذه مفارقة سلبية. هناك مأزق متعلّق بتنامي ظاهرة الصالات السينمائية داخل المجمّعات التجارية الاستهلاكية في مدن لبنانية عدّة. والمأزق هذا لا يقف عند حدّ، لأن تكاثر الصالات اكتفى برفع عدد النسخ الخاصّة بأفلام قليلة، بدلاً من أن تتكاثر الأفلام وتتنوّع أشكالها والمضامين.
لكن المأزق الآخر كامنٌ في غياب صالة سينمائية واحدة على الأقلّ، في شارع بات اليوم شرياناً أساسياً في الحياة البيروتية، نهاراً وليلاً. بات جزءاً من الحكاية المستعادة لمدينة شهدت تاريخاً حافلاً بالتناقضات، وعرفت انهياراً فظيعاً في لحظات قاسية، ونجحت (إلى حدّ ما) في الخروج من نفق الغياب إلى واجهة المشهد (في الشكل على الأقلّ). صالات كثيرة عرفها الشارع قديماً، لا أثر لها إطلاقاً اليوم، باستثناء صالتي «سارولا» و«مارينيان»، لسبب لا علاقة له بالسينما: فالأولى باتت «مسرح المدينة»، والثانية تحوّلت إلى «مسرح بابل». وهذا لا يفي بالغرض السينمائي. فالصالتان المخصّصتان بنشاطات فنية متفرّقة، يستحيل أن تُقدّما نشاطاً سينمائياً مستوفياً شروطه التقنية والفنية والجمالية، لغياب التجهيزات الضرورية.
ليس بكاءً على أطلال مدينة لا تعني شيئاً لي. لكن الانفتاح الواسع لشارع الحمرا أمام استثمارات تجارية استهلاكية متنوّعة (ألبسة، مطاعم، ملاه ليلية، مقاه، مكتبات، أكشاك لبيع التبغ والصحف والمجلاّت، محلات تجارية مختلفة)، طرح سؤال غياب الصالة السينمائية، القادرة على إنجاح مشروع ثقافي ممزوج بالتجاري، إذا أُديرت بالشكل الصحيح: تجهيزات تقنية رفيعة المستوى، تنويع في أنماط الأفلام وأشكالها وحكاياتها، تخفيض سعر بطاقة الدخول، إلخ. وهذا كلّه من دون تناسي قدرتها على أن تُساهم في إنجاح المهرجانات السينمائية المُقامة في بيروت، وفي استقطاب جمهور من المهتمّين بالشأن السينمائي، المقيمين في الشارع هذا نهاراً وليلاً. لعلّ الصالة المذكورة هذه إن وجدت، تُعيد «متروبوليس» إلى الحيّز المكانيّ الذي انطلقت منه منذ خمسة اعوام، في ظلّ ظروف صعبة، قبل أن تنتقل إلى «أمبير صوفيل» في الأشرفية.
الشارع المفتوح على أنماط شتّى من الوجوه والثقافات، محتاجٌ إلى صالة سينمائية واحدة على الأقلّ. لن أدخل في تحليل سوسيولوجي نفسيّ للتمازج الحاصل على مستوى الهويات والجنسيات، لأن تمازجاً كهذا شكليّ فقط. أي أنه غير مؤثّر عمودياً. بينما الهوس في افتتاح خمّارات ليلية لم يعد قابلاً للردع في المدى المنظور، كما يبدو.
«الليل مش للنوم، أصل الليل للسهر»، بحسب فيروز. والليل محتاجٌ، أحياناً، إلى ما هو خارج الكأس والنميمة والأصوات المرتفعة والموسيقى الصاخبة، والتمايل الرائع للأجساد المتداخلة مع بعضها البعض، وسط براعة الليل في تحويل الأزقّة إلى نهار دائم.
 
 

السابق
الفلسطينيات يدخلن سوق العمل لمساندة أزواجهن وإعالة أسرهن
التالي
حقيبـة «سـكوتر» للسـفر