من أمام المزبلة – تابع: أحلام تتخطّى الرصيد

كنت عائداً من العمل تحت شمس الظهيرة، وفي يدي كيسان، أحدهما يحوي ساندويش فلافل، وآخر بعض الألوان الزيتية التي كنت قد اشتريتها لأكمل لوحتي الجديدة، عندما وصلت إلى الحيّ ووجدت أحدهم يطبع بحماسة على جدرانه، مستخدماً السبراي الأحمر ولوحة كرتون، جملة: "عطّر فمك بالصلاة على النبيّ"…

كان كلّ ما في هيئته يوحي بأنّه سلفيّ "جديد على هذه المصلحة"، ورغم ان لحيته لم تنبت بعد بالشّكل المطلوب، الا انه "حفّ شاربه حفاً"، كما ان هناك بعضا من الأوشام البدائيّة على يديه من طراز "عذاب الحب"، فيما بنطاله لا يزال محتفظاً بطوله الطّبيعيّ….

لا بدّ من أنّه تاب منذ أسبوع على الأكثر و خطورته ما تزال محدودة!

اقتربت منه ببطء وناديته:

-هيه يا أخ…

التفت إليّ متسائلاً:

– نعم ؟؟

– لو سمحت، أتمنى أن لا تطبع شيئاً على باب بيتي ..

نظر إليّ ببلاهة غير مصدق رؤية كافر بهذه الوقاحة…

– لماذا.. ؟

أجبته وأنا أسحب مفتاح البيت من جيبي:

– أنا من يجب أن أسالك: لماذا… لماذا تريد أن تطبع؟

فأجابني بغباء متوقّع وبعربية فصحى:

– لأنّ الجملة تدعو إلى تعطير الفم بالصّلاة على النبيّ.

قلت له، وقد بدأت حرارتي بالارتفاع غيظاً من إجابته:

تعطير الفم بالصّلاة على النبيّ؟ وما رأيك بالمزبلة التي تتوسّط الحيّ، والتي طبعت على جدرانها جملتك هذه؛ ألم تلتقط "مناخيرك" رائحة "عطرها" المنتشر في أرجاء الحيّ منذ سنوات؟!

فغر فاه مندهشاً، غير متوقّع ردّي هذا، ثم أخذ يتطلّع إلى المزبلة، فيما فتحتا أنفه تضيقان وتتّسعان وكأنّه تنبه إلى الأمر..

صمت برهةً… فظننت أن عقله سينطق… لكنّ الأمر شبيه بإعطاء أعمى محاضرة في "غضّ الطّرف". فقال لي بعد فترة من الصّمت:

– إنّ المقصود من الجملة خير، وهو الصّلاة على النبي …!

أجبته بحدّة:

– نعم، ولكنّ هذا لا يعطيك الحقّ في أن تتعدّى على نطاق باب بيتي وجدرانه، وأن تصادر حرّيّتي وتفرض عليّ ما تريد كتابته…

نظر إليّ نظرة حقد تقطر اشمئزازاً وقرفاً، ثم هزّ رأسه متمتماً بغلّ:

– حسنا…

وأدار ظهره، لكني ناديته قبل أن يرحل، وسحبت من جيب قميصي حبة هولز halls بنكهة النعناع، ومددتها له، وذلك على سبيل ترطيب الأجواء، ودرءاً لتفاقمها، "والله لا أكثر ولا أقلّ"، لكنّه فهم الأمر باتجاه آخر، فرفض أخذها، وتركني متجاوزاً باب بيتي، آخذاً بطبع جملته بكثافة في كلّ مكان تصل إليه يداه، من باب "فشّ الغلّ"، وعندما وقف لينظر إليّ متشفّياً، كنت أنا أغلق الباب خلفي في هدوء. دخلت إلى البيت. آه…. بيتي العزيز!

مرحباً أيّها البيت، لقد مضغتني السنين وألقتني فيك، صحيح أنك قبر لأحلامي، صحيح أنّك صغير كالتابوت، ورائحة العفونة والرّطوبة تفوح منك وتقتات شيئاً فشيئاً من رئتيّ، صحيح أنّ شرايينك لم تصل إليها المياه منذ دهور، صحيح أن بنيتك التحتيّة دائماً ما تغنّي للبلدية: "زوروني كلّ سنة مرّة"، صحيح أني أخوض في ربوعك صيفاً صراعاً مريراً مع أفواج الصراصير التي تزحف اليك من المزبلة، وشتاءً مع أمواج المجارير التي تطوف وتصل اليك عقب السيول المنزلة. صحيح أنّ حياتي فيك تسمّى بهدلة. صحيح أنّك في حيّ بائس ومهمل. لكن صدّقني يا بيتي العزيز، سأبقى أحبّك، ولن أكرهك ما دام غيري ينام في الشّارع.آه بيتي العزيز. بعدما أرحل، هل ستحن إلى من أتى إليك يوماً وعزف على غيتاره بين جدرانك؟هل ستحنّ إلى من حاول أن يزرع وروداً أمام نوافذك كي لا تكون المزبلة أوّل ما يراه ؟هل ستبكي رطوبةً؟ وينشّ "سقفك" ليرشح مزيداً من المياه؟ عندما تتذكّر من رسم تحته أجمل لوحاته.

…..

غيتاري مستقرّ على "ستانده"، والوتر e مقطوع من "لغاليغو" بعد محاولة زوج خالتي "المقاول" البائسة بالعزف عليه خلسة. طبعاً، سيبقى مقطوعاً إلى آخر الشهر، لأنّ دفع 30 ألفاً ثمناً لأوتار جديدة ليس مناسباً الآن، وخصوصاً أنّ هناك ثقباً في حذائي يتّسع بسرعة كثقب الأوزون. ووتر مقطوع لن يغيّر شيئاً. سأبقى أعزف وأتحسّس شبح وجوده، كما يتحسّس الجريح مكان يده المبتورة ويشعر بها. لقد تعوّدت على ذلك. أوراقي التي أخطّ عليها ثورتي الذّاتيّة الملتهبة مبعثرة على طاولتي الصّغيرة، تنتظر شيئاً من التنظيم. بعض العناكب عادت لإنشاء مستعمراتها في سقف البيت. ممممم… هناك الكثير مما يجب أن أفعله في انتظاري. من أين أبدأ؟ …. ممممممم. فلنبدأ أوّلاً بساندويش الفلافل الّذي نسيت وجوده. ليس بالخبز وحده يحيا التّعساء. بل بالفلافل أيضاً. هئ هئ هئ.

بدأت بتناول غدائي المتواضع على الطّاولة، وأنا أراقب بعض القطط التي تركت المزبلة ووقفت على نافذة بيتي تأمل أن يطالها شيء مما آكله، لكنها تأنّفت بعيداً هذه المرّة أيضاً، لأن الفلافل لا تناسب جلالتها.

إذهبي وموّئي بعيداً أيّتها القطط الحقيرة. هناك من لا يتغدّى على فلافل، لكنّه يحدّث النّاس عن فضلها في الدّنيا والآخرة. اذهبي إليه، وموّئي فوق رأسه حتى يجفّ حلقك، فربما ألقى إليك شيئاً تأكلينه. اذهبييييييييييييييييي!

يرتعش هاتفي قليلاً. و…Massage received

Ahlan 7bib al2lbi kifak wa kif a7walak kteer meshta2lak alyom natrinak almasa 3al 3asha badak tiji ghasbin 3anak kel alshbab jayeen …»a.f »

إنّه "ع. ف. " يدعوني إلى العشاء، ويبدو أنّه قد دعا باقي الشّباب، لكنّ المؤسف أنّني لن أستطيع الحضور، لأنّ لديّ ارتباطات عديدة هذه اللّيلة.

أرفع سماعة هاتفي لأطلبه، فتردّ عليّ الرّسالة الإلكترونيّة الأكثر سماعاً في لبنان: "عذراً، إنّ هذه المكالمة تتخطّى رصيدكم". مممممممممممممم. ليست المكالمة الهاتفيّه وحدها تتخطّى الرّصيد في بلادنا. أسخف الحقوق، وأبسط الأمنيات، والأحلام، كلّها تتخطّى الرّصيد هنا، فعلى ماذا أحزن وأتضايق!؟

أضع هاتفي جانباً، وأفكر. يبدو أنّه لا مناص من تلبية دعوة "ع. ف." على العشاء وتحمّلي سماع ثرثرته المملّة، التي تتمحور إمّا حول الزّواج، أو علامات السّاعة واقتراب الظهور. وكلا الموضوعان لا يهمانني حتماً. فالزّواج في ظلّ هذه الظّروف الاقتصاديّة الصّعبة هو أكبر قاسم مشترك بين المغفّلين من محدودي الدّخل ومحدودي الحلم في هذه البلاد. أمّا الأحاديث عن علامات الظهور وقيام الساعة، فقد أصبحت توظّف سياسياً وإيديولوجياً بأكثر مما توظّف روحيّاً وأخلاقيّاً. وهناك علامات صغرى بالنّسبة إليّ لم تتحقّق بعد، كزيادة الرّاتب، أو الوصول به إلى نهاية الشهر… فما بالك بالعلامات الكبرى كترك صبرا، أو دفع ميكانيك السيّارة.

انتهيت من غدائي، ونهضت لأعلن حرب تنظيم البيت وترتيبه:

كنس العناكب، ترتيب الأوراق والمكتبة، رشّ بعض من المسحوق الأبيض الخاصّ بالصّراصير، التي اصبحت تحتاج الى مبيد بشري لا حشري، غسل الصّحون، وبعض من الثياب…

تنتهي حربي مع البيت، واضعةً أوزارها مع المكنسة خلف الباب. أطفئ هاتفي الخليوي، أتمدد على الفراش مستلقياً على ظهري، عقارب السّاعة تلتهم الوقت، عيناي تتثااااااقلان، هل سأستطيع النهوض عند الثامنة مساءً.

لا أدري …….

يتبع

السابق
اللقاء السياسي اللبناني – الفلسطيني
التالي
اتحاد بلديات جبل عامل يخرج دفعة جديدة