استباحة مشاعات الجنوب في الوقت الضائع

وسط الوضع المتأزم الذي يُحيط بتشكيل الحكومة، حيث تغيب عن الساحة القبضة الحديدية المسؤولة، وتضع البلاد في بوتقة حلقة مفرغة من الوقت الضائع، برزت على السطح عدة قضايا على مختلف الصعد التي تُشكل حالة من الفلتان الأمني والاجتماعي والبيئي تهدد بوقائع لا تُحمد عقباها..
ولعل الأكثر خطورة في الأحداث، التجاذب السياسي الذي أدى إلى عقد متشابكة بين الأفرقاء على الساحة الوطنية من جهة، وعلى صعيد تأليف الحكومة من جهة ثانية، أتاح المجال الاقتصادي في هذا الوقت الضائع أن يأخذوا الراحة في الإقدام على مجموعة من الأعمال التي لم تشهد البلاد سابقات لها، بحكم التأزم الحاصل الذي وصل إلى حد «التنابذ»، ووصلت الأمور إلى حد أن كل فئة فتحت على حسابها، وباتت الأوضاع في حالة «حارة كل مين أيدو له» لتحصيل أكبر قدر من المكاسب، ولو كانت على حساب الحقوق الشرعية أو القانونية أو الاجتماعية، كما لو كان الحال في «غابة» المفترس فيها هو صاحب الحظ في الهيمنة والسيطرة وتحصيل المكاسب..
لقد لاحظ المواطن العادي، الذي يجد نفسه تحت مقصلة التجاذب الذي وصل إلى حد التنافر والحروب الكلامية المفتوحة على مصراعيها، حالة من الفلتان الأمني لم تشهد البلاد سابقة لها من استغلال الأوضاع التي تشابكت فيه المصالح السياسية، الى الحد الذي وجد المواطن فيه نفسه تحت مصيدة الاقتناص، وعرضة للإستباحة في سرقة البيوت والسيارات، وكل مختلف ألوان الإعتداءات الذي بات فيه التأثير السياسي محور تشكيل إرباك للأوضاع الأمنية.
وتزامنت حالات الارباك الأمنية مع حالات أخرى من اعتداءات من نوع آخر على الساحة، منها استباحة ما يُسمى المشاعات من أملاك الدولة من الأراضي أو الأملاك البحرية، كما ظهر ويظهر في العديد من المناطق الجنوبية.

سرعة في إنجاز العمل كسباً للوقت
لعل أخطر ما في الأمر، أن قوى الأمن الداخلي التي حاولت التدخل ومنع هذه الاعتداءات، جوبهت وتجابه في كل هذه المناطق بردود فعل سلبية من قبل المعتدين الخارجين على قواعد الأصول القانونية والشرعية، مدعومة سياسياً، وتؤدي المواجهة معها إلى ما لا تُحمد عقباه في الحالة اللبنانية المتأزمة، التي تحول، وقد حال حتى الآن من وضع الأمور على السكك القانونية التي تجعل الدولة قائمة وموجودة في كل مواقعها، وفي كل الأماكن.
وهنا يتساءل المواطن العادي، الذي لا حول له ولا قوة، وليس له من نصير في العيش الحر الكريم في دولة تحكمها القوانين، إن كان في مسكنه أو في طبيعة الحفاظ على حياته، في تنقلاته وحاله وترحاله، هل القوانين الموضوعة له وحده وعليه وحده، ويتعرض للسرقة والنهب إن كان في بيته أو سيارته أو لأمواله التي يحملها، وأن المدعوم سياسياً وراءه حزب أو تنظيم أو فئة أو مجموعة لا سلطان عليه، فيما يعمل وفيما يقوم من اعتداءات على الناس والأرواح، ويتجرأ في خرق القوانين والاعتداء على أملاك الدولة ذاتها، وليس للدولة من قدرة على منعه ووقفه عند حده؟
هل يعيش المواطن العادي في دولة لها قوانينها التي تحد من سطوة المعتدين وتردع الخارجين على كل الأعراف والقوانين، أم هي مجموعة دول، وكل دولة فيها أقوى من الدولة، وتتجرأ بكل بساطة وقوة على مقومات ومعطيات الدولة؟
فلتان يطال كل المجالات
لم يشهد لبنان من قبل، بالرغم مما مر عليه من أحداث وحروب، مثل هذا الفلتان، الذي يطال كل المجالات. وحتى في أحلك الظروف التي مرت على كل المناطق لم يصل فيها الأمر إلى حدود هذه الاختراقات والتحديات الجارية الآن، فهل المقصود كما قد يتبادر إلى أذهان المواطنين العاقلين إن تأزيم وتأخير تشكيل الحكومة ووضع العراقيل التي تحول دون تشكيلها، أن يضع البلد تحت طائلة عدم وجود حكومة، أي عدم وجود مسؤولية مباشرة، باعتبار أن الحكومة هي عنوان الإرادة التنفيذية، ما يتيح المجال لتحكم الدويلات، ويضعها تحت إرادة كل من هو مدعوم من دويلته. تلك المسألة التي يشهدها المواطن وتجعله حائراً قلقاً على الواقع المؤلم الذي وصل إليه، وعلى مستقبله ومستقبل عائلته وأوضاعه، بل على مستقبل بلده بشكل عام.
لقد سجلت وفجأة وبدون سابق إنذار الهجمة غير المعهودة على احتلال المشاعات العامة في العديد من المناطق الجنوبية، وإن كان البعض يستغل الواقع من أن هناك مساكن بحاجة إلى إعادة ترميم جراء تعرّضها للعدوان الإسرائيلي المتواصل على الجنوب، فيما البعض استفاد من حالة الاسترخاء وإلتهاء المسؤولين بمتابعة «مخاض» ولادة الحكومة الميقاتية، فتركت الأمور على مصراعيها، حيث فجأةً شُيدت مئات المساكن في مشاعاتٍ وعلى أملاك عامة وبحرية، فظهر وكأن هناك تسابق في من الذي يمكنه أن يحصّل أكثر من سرقة حقوق المواطنين عبر إنشاءات جديدة، ولم يقتنع من لم يكمل البناء بتوقيف أعماله غير القانونية، متخذاً من نماذج أخرى سبقته مثالاً في الخروقات، وكأن حقوق أبناء الوطن هي «غنيمة» يتسابق البعض في اقتسامها.
والمفارقة أن هذه الورش كان يُعمل فيها ليل نهار، بعدما ارتفعت فيها تكاليف الأيدي العاملة المدفوعة سلفاً، وعمل عدد من أصحاب «الجبّالات» على تأمين الباطون جاهز على مدار الساعة، من أجل الإسراع في إنجاز العمل.
وفي المواقف السياسية، لم يبقَ فريق سياسي في الجنوب إلا ودان مثل هذه الأعمال، إعلامياً وعلنياً، ولكن في الكواليس والخفاء كان بعضهم يُجري اتصالات مع مسؤولين قضائيين وأمنيين ورسميين، من أجل عدم توقيف المعتدين على الأملاك العامة.
كذلك، من اللافت للنظر، هذه الموجة من محاولات الإعتداء أو الإعتداء على قوى الأمن الداخلي خلال محاولتها قمع المخالفات، ما اضطرها للإستعانة بعناصر إضافية في محاولة لمنع المخالفات والتعديات، ووصل الأمر إلى رشق هذه الدوريات بالحجارة، أو إشعال إطارات مطاطية لمنعها من تنفيذ مهامها، وكأن هناك من يهدف إلى إشعال فتنة بين قوى الأمن الداخلي والمواطنين، لأهداف معينة، حيث قد يصل الأمر إلى أن يكون هناك، أداة تحريضية ليست ببعيدة بإدارتها عما جرى من تحريض في سجن رومية، في وقت دقيق جداً.
البناء على الأملاك العامة قائم على قدمٍ وساق
وقد عُقدت سلسلة من اللقاءات والإجتماعات شارك فيها عدد من المسؤولين الرسميين والنواب والسلطات القضائية والقادة الأمنيين والعسكريين والفاعليات السياسية والحزبية والبلدية والإختيارية، من أجل معالجة الواقع المستجد، حيث خلص إلى التوافق على عدد من النقاط، في مقدمها:
– وقف أعمال البناء كافةً، وفي شكل مباشر على المشاعات والأملاك العامة.
– قيام البلديات بإعطاء رخص 120 متراً فنياً وهندسياً تقوم به كل بلدية في نطاقها.
– السماح بترميم المنازل التي تضررت أو تهدمت في العدوان الإسرائيلي على الجنوب في تموز 2006.
– البحث مستقبلاً بما حصل من مخالفات لإجراء المقتضى القانوني لها.
– البدء الفوري للسلطات الأمنية والعسكرية والقضائية في تنفيذ الاجراءات الحاسمة لمنع التعديات على الأملاك العامة والمشاعات.
وخلال اجتماع عقد في «قاعة الرئيس رفيق الحريري» في سراي صيدا الحكومي مع محافظ الجنوب نقولا أبو ضاهر، النائب العام الإستئنافي في الجنوب القاضي سميح الحاج، قائد منطقة الجنوب الإقليمية لقوى الأمن الداخلي العميد منذر الأيوبي، وأصحاب المؤسسات الصناعية التي تتعاطى شؤون البناء «الجبّالات»، جرى وضعهم في صورة القرارات لجهة عدم بيع مادة الباطون «الإسمنت» لأي شخص قبل أن يبرز نسخة عن حصوله على ترخيص مسبق للبناء أو الترميم من الجهات المخوّلة بذلك، سواءٌ من التنظيم المدني أو المحافظة أو البلدية، تحت طائلة حجز «الجبالات» خلال سيرها على الطرقات.
وبعد استمرار عدد من أصحاب المساكن أو محتلي الأملاك العامة القيام بالبناء، بدأت القوى الأمنية بإتباع مراقبة «الجبّالات» التي تنقل «الأسمنت»، على اعتبار أن لا إمكانية لأصحاب المساكن من سقفها سريعاً دون تأمين الباطون الجاهز.
شيّد مسكناً في المشاع فاستغل جاره غيابه ببناء طابق آخر
عقدت اتفاقات داخلية بين مواطنين من ذات البلدة، حيث جرى توزيع أراضي المشاعات والأراضي العامة بالتراضي، وهو ما حصل في عدد من بلدات قضاء صيدا (الزهراني)..
وسجلت مخالفات بين المواطنين أنفسهم، فتسابقوا على البناء، واختاروا الأرض التي يريدون ووضعوا العلامات وجرفوا الأرض، بما معناه أن هذه الأرض تحولت من مشاع تابع للأملاك العامة إلى أرض حددت واختيرت للبدء بورشة بناء خاصة..
ولكن المفارقة ما جرى مع «أبو هاني»، الذي شيّد بناءً على أرض مشاع في أحدى البلدات الجنوبية التي شهدت موجة من الاستيلاء على الأملاك العامة من قبل أهالي البلدة، فتقاسموها بدون رضى رئيس البلدية – مبدئياً..
وغادر «أبو هاني» الضيعة متوجهاً إلى مكان عمله في العاصمة بيروت، ليعود في عطلة نهاية الأسبوع إلى بلدته، فوجد أن أحد أبناء البلدة قد شيّد طابقاً جديداً له فوق الطابق الذي كان قد سقفه «أبو هاني»، دون أية اعتبارات للخصوصية أو حرمةً للأملاك العامة، أو لتكبد جاره مصاريف الجرف والبناء، وكأن المواطن قد عاد إلى شريعة «الغاب» وزمن اللادولة

السابق
الجماعة الإسلامية تقارب احداث السورية بالنصح
التالي
شخصيات اسرائيلية تصدر بيان تأييد لدولة فلسطينية ضمن حدود 67