عن لبنان «المأزوم والمهزوم».. و«المقسوم على ثلاثة»!

مِنْ طبيعةِ الأزماتِ والهَزائمِ السِّياسيَّةِ التي تَلْحَقُ بالجَماعةِ؛ الأُمَّةِ أوِ الشَّعبِ، أنَّها تَجعلُ المأزومينَ والمَهزومينَ، في حالةِ انْكشافٍ مَهولٍ على الاحتمالاتِ والتَّساؤلاتِ. وإذا كانتِ الاحتمالاتُ أَمْرًا لا بُدَّ في النِّهايةِ، مِنِ رَجَحَانِ أحدِها على سِواهُ مِنْها، فإنَّ التَّساؤلاتِ لها عالمُها الخاصُّ بها. وأَوَّلُ هذا العالَمِ، أنَّ السُّؤالَ الذي لا بُدَّ أنْ يُسأَلَ هو السُّؤالُ الذي اعتَدْنَا ألَّا نسأَلَه! وإذْ لا خِلافَ على أنَّ لُبنانَ، اليومَ، مأزومٌ ومَهزومٌ؛ وإذْ أنَّ الهَزيمةَ فَرْعٌ مِنَ الأَزمةِ وتَجَلٍّ لها، فإنَّ السُّؤالَ الضَّروريَّ الآن ليس «هل نحنُ مأزومون؟»، وإنَّما هو «لماذا نحنُ مأزومون؟».

لا خِلافَ على أنَّ لُبنانَ اليومَ مأزومٌ ومَهزومٌ

إنَّ السُّؤالَ عن شيءٍ بـ «لماذا» يَفتَرِضُ، بالضَّرورةِ المنطقيَّةِ، أنَّنا نَملِكُ تَصَوُّرًا واضحًا عنْ هذا «الشَّيءِ» الذي نسألُ عنه. ولو شاءَ أحدٌ أنْ يُوَصِّفَ تَصَوُّرَنا للأزمةِ التي نَعيشُها، نحنُ اللُّبنانيِّينَ، رُبَّما سيَجِدُ كثيرًا، أو قليلًا، منَ الواقعيَّةِ في توصيفِ فهمِنا بأنَّه «فَهْمٌ سُريَالِيٌّ للأزمة»! وأوَّلُ هذه السُّرياليَّةِ أنْ يَفتَرِضَ أحدُنا أنَّ الحالةَ السِّياسيَّةَ اللُّبنانيَّةَ تتشَكَّلُ مِنْ اتِّجاهَيْنِ يُمكنُ تَسميةُ أحدِهما بـ «المُعارضة». ومِنَ المُفيدِ هَهُنا، أو أحسبُه كذلكَ، استحضارُ حكايةٍ حَكَاها المُفكِّرُ الرَّاحلُ محمَّد شحرور غيرَ مَرَّةٍ.

تَرْجِعُ الحِكايةُ إلى العام 1967؛ وتَحديدًا إلى الهَزيمةِ النَّكراءِ التي استحقَّها العَرَبُ، بجدارةٍ، آنذاكَ. يقولُ الدُّكتور شحرور أنَّ أوَّلَ خُطبةِ جُمعةِ حضرَها بعدَ الهزيمةِ قالَ فيها الخطيبُ: «هُزمنا في حرب حزيران لأنَّ النِّساء كاسياتٍ عارياتٍ». وبعدَ الخُطبةِ بيَومَيْنِ التقى شحرور بأحدِ الشُّيوعيِّين الذي قالَ له: «انهزَمْنا لأنُّو بِنْصوم برمضان»، فما كانَ جوابُ شحرور إلَّا أنْ قالَ له: «لعنةُ الله عليك وعلى إمام الجامع إنتُو التْنِين. واحد يمين وواحد يسار بَسْ إنتُو التْنِين أَلْعَنْ مِنْ بعض».

ليسَ مِنْ بابِ العَبَثِ إنْ قِيلَ أنَّ هذه الحكايةَ “مُفصَّلةٌ على مَقَاسِ” الحالةِ السِّياسيَّةِ اللُّبنانيَّةِ. وبالتَّالي، إنَّه منَ الجَيِّدِ قِياسُ الحالةِ اللُّبنانيَّةِ على حالةِ «الخطيب والشُّيوعي» تلك. وأقولُ «حالة» بالمُفردِ، وليسَ حالتَيْن، لأنَّ الخطيبَ والشُّيوعيَّ، في الحكايةِ على الأقلِّ، لا يُشَكِّلانِ حالتَيْنِ سِياسيَّتَيْنِ وإنَّما حالةٌ واحدةٌ في جوهرِها، رغمَ كُلِّ ما قد يُقالُ عن أوجُهِ التَّبايُنِ والتَّضادِّ بينهُما. ومِنْ غيرِ الدَّقيقِ، بالتَّالي، تَصنيفُ الخطيبِ والشُّيوعيِّ تصنيفًا يجعلُ مِنْ أحدِهما «مُعارِضًا» للآخر. إذْ أنَّ المُعارضةَ تَعني، أوَّلَ ما تَعني، مُعارضةَ النَّهْجِ لا مُعارضةَ الفِعلِ؛ مُعارضةَ المُقدِّماتِ لا النَّتائجِ؛ مُعارضةَ الأفكارِ لا الأشخاصِ؛ مُعارضةَ الخطأ لا المُخطئ؛ وأخيرًا، لا آخرًا، مُعارضةَ الجريمةِ لا مُعارضةَ المُجرم. بهذا المَعنى للمُعارضةِ يُشَكِّلُ الخطيبُ والشُّيوعيُّ، عَلِمَا أمْ لَمْ يَعلَمَا، ائتلافًا يختِلِفُ طَرَفاه في شكلِ المُقدِّماتِ، ويَصِلانِ إلى نتائجَ ذاتِ مضمونٍ واحدٍ؛ الأزمة/ الهزيمة.

عَوْدًا على لُبنانَ، وخطيبِه وشُيوعيِّه، باتَتْ كلمةُ «مُعارضة»، تُقالُ على سبيلِ التَّنَدُّرِ تارةً، والسُّخريةِ تاراتٍ. ومَرَدُّ هذا إلى أنَّ تعريفَ «المُعارضة» لم يَعُدْ سِوى: طرفٌ لا شُغْلَ له، إلَّا إدانةَ الآخر وتبرئةَ نفسِه. والذي يُعبِّرُ حقيقةً على تفاهةِ الحالةِ السِّياسيَّةِ القائمةِ، هو أنَّ كُلَّ الأطرافِ السِّياسيَّةِ الموجودةِ الآن، هي مُعارِضَةٌ بهذا المعنى للمُعارضة. ومَرَّةً أُخرى أستحضِرُ محمَّد شحرور يومَ قال أنَّ ثقافةَ المسيحيِّينَ في البلاد العربيَّةِ هي ثقافةٌ إسلاميَّةٌ أيضًا. وهُنا لا بُدَّ منَ التَّذكيرِ أنَّ أصدقَ وأصَحَّ شِعارٍ رُفِعَ على هذه الأرضِ هو «كُلُّن يَعني كُلُّن».

التَّاريخَ عندَ اللُّبنانيِّين يسيرُ إلى الوَراءِ

وإذْ أنَّ التَّاريخَ عندَ اللُّبنانيِّين يسيرُ إلى الوَراءِ، فإنَّه منَ الجائزِ، على سبيل التَّمثيلِ، تصويرُ الحالةِ السِّياسيَّةِ بأنَّها مجموعاتٌ مُتفرِّقةٌ منَ اللُّبنانيِّينَ، تحكمُها مجموعةٌ منَ الزُّعماءِ المُوزَّعين، بينَ مُراهِنٍ على الخارجِ ومَرهونٍ للخارج. وعلى سبيل «المُعارضة» انقسمَ الزُّعماءُ قِسْمَيْن:

فريقٌ لم يَزلْ يعتقدُ أنَّ له الحقَّ في تحديدِ مَنِ الذي «في قَتْلِه صلاحٌ» للُّبنانيِّينَ، ولم يزلْ يرى «رؤوسًا قد أينَعَتْ وحانَ قِطافُها»، ويَنظُرُ إلى «الدِّماءِ تَتَرَقْرَقُ بينَ العمائمِ واللَّحى»، وبالتَّالي فإنَّه لا يتَرَدَّدُ في أن يقولَ: «واللهِ لَأُؤَدِّبَنَّكُمْ غيرَ هذا الأدب»، ويَبدوُ أنَّه ماضٍ في استعلائه إلى اليومِ، الذي يَقولُ لنا فيه بالفَمِ الملآنِ واللِّسانِ الغَضبانِ: «أيُّها النَّاسُ، مَنْ أَعْيَاهُ داؤه فعِندي دواؤه.. ومَنْ ثَقُلَ عليه رأسُه وَضَعْتُ عَنْهُ ثِقَلَه».

وإذا كانَ الفَريقُ الأوَّلُ قرَّرَ أن يَرْجِعَ بالتَّاريخ إلى الحَجَّاجِ بن يُوسف، فإنَّ الفريقَ المُقابِلَ، أو «المُعارِضَ» بلُغَةٍ مُبتذلة، قَرَّرَ أن يَرْجِعَ إلى ما قَبلِ الإسلامِ، ويبدأَ مِنْ أشهَرِ وأحمَقِ ما جادَتْ بِهِ العربُ في مُعلَّقةِ عمرو بن كلثوم: «ألا لا يَجْهَلَنَّ أحدٌ علينا فنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلينَ». ومِنْ عمرو بن كُلثوم قفزتِ «المُعارضةُ» قفزةً تاريخيَّةً إلى يومِ وقفَ الحجَّاجُ وقفتَه في الكُوفةِ وقال: «إنِّي والله لَأَحْمِلُ الشَّرَّ بحِمْلِهِ وأَجْزِيه بمِثْلِه».

وثَمَّةَ فريقٌ ثالثٌ، لم يزل بفَضْلِ اللهِ ورحمَتِه خارجَ السُّلطةِ، لكنَّه سَبَقَ الَفريقَيْنِ إلى نِهايةِ الدَّولةِ الأُمويَّةِ وبدايةِ العبَّاسيَّةِ، فحالُه أشبَهُ بالصُّورةِ، التي يُحبُّ الشِّيعة الإثنيْ عشريَّة أنْ يُركِّزوا عليها. فبَنو العَبَّاسِ «المُعارضين» للأُمويِّينَ، كانَ عُنوانُ مُعارضتِهم «الرِّضى من آلِ محمَّد»، وإذا بالدَّائرةِ تَدورُ فتَصِلُ «المُعارضةُ» إلى «السُّلطةِ» لتَكونَ أشدَّ تنكيلًا بـ «آلِ مُحمَّد». وأداءُ هذا الفريقِ يُؤكِّدُ أنَّه لنْ يكونَ خيرًا على «آلِ مُحمَّد»، إنْ كانَ أصلًا، منَ الفريقِ الذي «يُعارضونَه».

ثَمَّةَ فريقٌ ثالثٌ لم يزل بفَضْلِ اللهِ ورحمَتِه خارجَ السُّلطةِ لكنَّه سَبَقَ الَفريقَيْنِ إلى نِهايةِ الدَّولةِ الأُمويَّةِ وبدايةِ العبَّاسيَّةِ

في إحدى صفحاتِ تاريخِنا البائس، يَروي كاتِبو التَّاريخِ أنَّ الخليفةَ عُمرَ بنَ عبدِ العزيزِ قالَ في الحجَّاجِ ما مَعناهُ: لو أنَّ الأُمَمَ تخابَثَتْ يومَ القيامةِ فأخرَجَتْ كُلُّ أُمَّةٍ خبيثَها، وأَخْرَجْنا الحجَّاجَ وحدَه لغَلَبْنَاهُم مُجتَمِعين. وأمامَ ما آلَتْ إليه أحوالُ هذا البَلَدِ، لا حَرَجَ على أَحَدِنا إنْ قالَ: لو أنَّ الأُمَمَ تَحامَقَتْ يومَ القيامةِ فأَخْرَجَتْ كُلُّ أُمَّةٍ أحمَقَهَا، وأخْرَجْنا، نحنُ اللُّبنانيِّين، «المُعارضة» لغَلَبْنَاهُم مُجتمِعين.

السابق
انتخابات إيران: أمن النظام يتأهب لقمع المنتفضين.. وهذا ما فعله!
التالي
مستشفى النجدة النبطية تنظم دورة الشهيد حكمت الأمين في كرة القدم