حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: عقل «حزب الله» بين غُرم على لبنان وغُنم لإيران والأسد

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

فاقد الشيء لا يعطيه، ومن تسبب بالداء لا يمكن ان يكون طبيبا يداويه، ومن كان جزءا من الازمة لايصلح ان يدعي معالجتها أوصناعة الحلول لها، ومن عمد الى صناعة الانهيار والافلاس المالي، لن يقوى او يجيد رسم طريق النهوض الاقتصادي والتعافي المالي…تلك حقيقة بسيطة تعكس المعضلة اللبنانية، ويفسر تجاهل هذه الحقيقة والتنكر لها، استمرار الاستعصاء السياسي اللبناني على الحل او على الاقل، التدرج في فكفكة الأزمات المتداخلة والمتشابكة، التي تطال كل مناحي وقطاعات الحياة العامة والسياسية والاقتصادية في لبنان.

والاستعصاء الوطني، يتمثل في تفكيك كيان الدولة بكل مضامينها وقيمها وثقافتها ومرجعياتها المعرفية، وشل وظائف سلطاتها المختلفة من اجرائية وتشريعية وقضائية، واستتباع اجهزتها الإدارية والرقابية والامنية والمالية لمنظومة سياسية يقودها “حزب الله”، ونهب قطاعات خدماتها واملاكها العامة، والاستيلاء على رسومها المالية ومداخيل جماركها، واهدار عائدات مرافقها العامة…

حدث هذا الاستعصاء، بعد التحول في طبيعة اطراف السلطة الحاكمة، فانتقلت مفاتيح السلطة وقراراتها، في فترة الوصاية السورية وبرعايتها، من قوى سياسية تقليدية قبلية، وعائلات اقطاعية وبرجوازيات مالية ومصرفية وأصحاب وكالات اجنبية، ترتضي ربحا وتكسبا من انخراطها في دورة انتاجية واقتصادية شرعية، الى احزاب طائفية ميليشياوية فاسدة، تقتطع خوة اكراهية من الاقتصاد الحقيقي، وتعتمد اساليب المافيا الاجرامية، وتطلق العنان لارتكاب كل انواع الجريمة المنظمة.

وغني عن القول، ان هذا الاستعصاء الوطني اللبناني، يستمر ويستقر اليوم، محميا بسبب استعصاء شيعي! سياسي وعسكري وطائفي، ودون حل الاستعصاء الشيعي فليس من الممكن حل الاستعصاء الوطني اللبناني.

وفي غياب حل للاستعصاء الشيعي، ستدور الحلول والتسويات في حلقة مفرغة من الترقيعات والمسكنات الموضعية، التي تخفف من اوجاع الازمة او من مخاطر تفجرها، وذلك من دون الذهاب الى حلول مستدامة، تضمن الاستقرار والازدهار لشعب عانى طويلا، وتألم وتشرد على مدى اعمار اجيال متتالية.

تنبري شخصيات سياسية عديدة، واقلام كتاب وقامات سياسية مختلفة، لتوجيه اللوم الى “حزب الله” وتحميله المسؤولية الاولى، عن ما وصل اليه لبنان، وتركز في نقدها على سلاحه، وقدرته على ممارسة العنف تنافسا مع ما تبقى من بقايا الدولة الشرعية، وخلافا للقانون وتجاوزا لدور الاجهزة الامنية الشرعية، وطبعا فان هذا النقد محق ومقبول، لكن اخطر ما يهدد حاضر لبنان ومستقبله ليس سلاح “حزب الله” او صواريخه؟!
الخطر الحقيقي على كل لبناني، كما على كل شيعي، هو عقل “حزب الله” وثقافته وبديهياته ومنطقه لا سلاحه! طبعا ليس المقصود من الكلام هذا، التقليل من خطورة السلاح ومفاعيله.

لا يريد عقل “حزب الله” ان يدرك ان النموذج الايراني الاسلامي لا يصلح اعتماده في لبنان نظرا لتعدد طوائفه وانفتاحه الثقافي منذ بداية التاريخ

وتظهر خطورة عقل “حزب الله” في مفاصل سياسية وازمات كثيرة، تحمل دلالات كارثية مدمرة، وسنورد أمثلة حية ومباشرة تبين هذه الحقائق وتعريها.

١) في احدى تصريحات احد قادة “حزب الله” في بداية انطلاقته، يقول النائب السابق، السيد ابراهيم امين السيد ما حرفيته”نحن لسنا جماعة ايران في لبنان، او حلفاء لها! نحن ايران في لبنان”. ما اراد التأكيد عليه السيد هو التطابق والتماهي الكامل بين أمة “حزب الله” في لبنان وبين ايران، بحيث ان ما ينطبق على امة الولي الفقيه في ايران ينطبق على امة “حزب الله” في لبنان، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، سلوكهم سلوك واحد، اهدافهم واحدة، وتطلعاتهم واحدة، ممارساتهم وعاداتهم ونمط عيشهم واحد موحد، معاركهم واحدة، اصدقاء ايران هم اصدقاء “حزب الله”، واعداء ايران هم اعداء حزب الله، ومصالح دولة ايران وجمهوريتها الاسلامية هي مصالح “حزب الله”، اذا قاتلت ايران يقاتل “حزب الله” معها، واذا هادنت ايران يهادن “حزب الله” معها، واذا فاوضت ايران فاوض “حزب الله” معها…

٢) لا يعترف “حزب الله” باية حدود سياسية او اقتصادية او قانونية بينه وبين ايران، ويعتبر امة الولي الفقيه في ايران، نموذجا مثاليا يجب استنساخه بحذافيره؛ من الاعراس الى المآتم والأحزان، الى طقوس التدين والشعائر ونمط العيش والملبس، وقد وصل هذا “التأيرن” العقلي والثقافي الى ان يظهر لدى شريحة واسعة من المعممين، وقارئي مجالس العزاء الحسيني، او مرتلي ايات من القرآن الكريم، بان يرطنوا كلامهم باللغة العربية بلهجة ايرانية، مقلدين مشايخ ايران حين يتكلمون العربية. الخ…

يعاني لبنان اليوم من استعصاء شيعي سياسي وعسكري وطائفي ودون حل الاستعصاء الشيعي فليس من الممكن حل الاستعصاء الوطني اللبناني

٣) لا يريد عقل “حزب الله” ان يدرك، ان النموذج الايراني الاسلامي لا يصلح اعتماده في لبنان، نظرا لتعدد طوائفه وانفتاحه الثقافي منذ بداية التاريخ، على ثقافات عديدة وانماط عيش مختلطة ومتنوعة، وان الانفتاح والحداثة اللبنانية ليست قرارا سلطويا، او خيارا سياسيا عابرا، او مؤامرة غربية، بل هو نتاج تراكم تاريخي واجتماعي، حدث نتيجة موقعه الجغرافي على مفترق القارات، وعلى شاطئ البحر الابيض المتوسط، وتاريخ جماعاته كافة، ولا ينتبه ان موسيقى الرحابنة وووديع الصافي وصباح وصوت فيروز، هي اكثر رسوخا في وجدان اللبنانيين كافة، بما في ذلك الشيعة، جنوبا وضاحية وبقاعا، اكثر رسوخا من سلاحه وفتاوي مشايخه وصواريخه. وان محاولاته لتحريم الموسيقى والزجل والدبكة والرقص، ولتحويل كل ايام السنة الى ايام لطم وبكاء، واشغال اسماع اتباعه بسلسلة لاتنتهي من الادعية، و تنظيم الزيارات لمقامات دينية مستحدثة لا اساس لوجودها تاريخيا وواقعا، وان استطاع فرضها لفترة عابرة، لن تغير من ذائقات الشعب اللبناني، ومن انماط عيشه ومستويات استهلاكه، ومن ضمنهم اللبنانيون الشيعة، وليس أدل على ذلك من ان عائلات مسؤولي “حزب الله” وكوادره وابناء قياداته وبناتهم وزوجاتهم، يعيشون ويفضلون نمط العيش اللبناني بكل تنويعاته، ويتنعمون بنمط استهلاك في السيارات والمنازل والفيلات والمفروشات والماكولات، والرياضة والموضة والتبرج والحفلات، لا يشابه نمط الزهد والتقشف الذي يتبناه الولي الفقيه.

إقرأ ايضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الممر الهندي ما بعد بعد حيفا ومرفأ بيروت

٤) لا يعيش “حزب الله” حالة انكار للواقع اللبناني، بل ينكر الواقع في ايران نفسها، وما يحاول ان يفرضه على شيعة لبنان بداية وشعب لبنان تاليا، يتبدى مرفوضا في شوارع طهران ومدنها، ويواجه نموذج ولاية الفقيه، في نمط العيش والاستهلاك، وممارسة الحريات والخيارات في الحياة والعلاقات الانسانية، وفي المأكل والملبس رفضا متصاعدا في ايران ذاتها، وتتصدى النساء الايرانيات باللحم الحي، و أجيال الشباب في الجامعات الايرانية املاءات الموالي، وصولا الى نزع عمائمهم.

٥) يتصور “حزب الله” انه باستطاعته ان يقاتل ثلاثة ارباع دول العالم، نيابة عن ايران ونظام الاسد، ويتجاهل حساب موازين القوى في بلد صغير كلبنان، ولعبة الاحجام وعوائد المصالح وفوائد النزاعات وخسائرها، ففيما تسعى ايران الى عقد تسويات مع اميركا، تسترجع بها حفنة من دولارات لها تم حجزها، يستمر “حزب الله” في تصعيد موقفه في وجه اميركا، ويطلق امينه العام اتهامات لها، في كل حدث سياسي سواء كان في العراق او سورية او فلسطين، وفيما تقوم ايران باستعادة علاقاتها مع السعودية ودول الخليج العربي، ويتبادل وزراء هذه الدول زيارات تنسيق وتعاون، كما يجهد الاسد للعودة الى الجامعة العربية، وتحسين علاقاته مع مصر والسعودية والامارات، يستمر “حزب الله” في مواجهة السعودية وتوجيه الاتهامات الى دولة الامارات، وفيما تبحث السعودية وايران امكانية تبادل زيارات رعاياها الى البلدين دون تأشيرة، يستمر منع اللبنانيين، وخاصة الشيعة منهم، وبسبب عقل “حزب الله” وسياساته، من الحصول على اية تاشيرة زيارة او عمل في كل دول الخليج!!

يتصور “حزب الله” انه باستطاعته ان يقاتل ثلاثة ارباع دول العالم نيابة عن ايران ونظام الاسد ويتجاهل حساب موازين القوى في بلد صغير كلبنان


وفيما راهنت ايران سابقا، على دور اوروبي ايجابي تجاه المفاوضات حول ملفها النووي، وما زالت تراهن اليوم، يخرج علينا امين عام “حزب الله” ليدفعنا في لبنان الى مواجهة مع دول المجموعة الاوروبية، عبر اغراق اوروبا بسيل من النازحين السوريين انطلاقا من لبنان، وذلك بهدف مساعدة الاسد على مواجهة قانون قيصر، الذي اقره الكونغرس الاميركي، ادانة لعمليات التعذيب الوحشية التي ذهب ضحيتها الاف السوريين.
يتناسى :حزب الله” ان سوريا لديها مرافئ وشواطئ على المتوسط، وان الاسد يستطيع بنفسه ان يوجه نازحيه الى اوروبا، انطلاقا من مرفأي طرطوس واللاذقية، فعلام يريد نصرالله تحميل لبنان عبء هذه المواجهة مع اوروبا، واعفاء الاسد من وزرها؟!

في كثير من الاحيان، يزعم اعلاميون مقربون من الحزب ان هذه العلاقة العضوية بين الحزب وايران هي متكافئة ومتبادلة ومتوازنة، وذهب حتى البعض من خصوم الحزب، الى الترويج لفكرة ان الحزب بقيادة نصرالله، وخاصة بعد اغتيال قاسم سليماني، هو شريك في آلية اتخاذ القرارات في طهران ذاتها، وليس فقط في صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت وغزة.
وان تراتبية العلاقة الايرانية مع الحزب، ضمن محور الممانعة تضع السيد حسن نصرالله ثانيا بعد القائد الخامنئي! فهل هذا هو واقع الامر، وهل الحزب شريكا لايران في محور متكافئ الاعضاء، الحقيقة تكشف عكس ذلك، ففي حين تسعى ايران الى تثمير اوراق نفوذها وجنى مكاسب وارباح من تسويات تنجزها، يكتفي “حزب الله” بتدفيع شعب لبنان وشيعة لبنان اثمان نزاعات لافائدة له فيها، وتوريطه بازمات وكوارث، يأخذ منها غرمها، لتجني ايران ونظام الاسد غنمها.

السابق
الزميل حسين سعد يوقع كتابه «إنتخابات الجنوب 2022 وقائع ونتائج ومؤشرات» في منتدى صور
التالي
المالكي يبارك عملية «طوفان الأقصى»: للوقوف مع الشعب الفلسطيني