وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: قرار معيب بحق الشيعة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

القرار الذي صدر عن هيئة التبليغ والإرشاد الديني، في المجلس الشيعي الاعلى في لبنان، وقضى بنزع الأهلية الدينية عن عدد معتبر من رجال الدين الشيعة، وفي مقدمهم الشيخ ياسر عودة، هذا القرار يطرح أسئلة جدية، حول أهلية وصدقية المؤسسة التي صدر عنها هذا القرار من جهة، ويستحضر مشكلة التداخل المربك والمدمر، بين الديني والسياسي من جهة أخرى.

هذا لا يعود موضوع تنظيم ديني بل توريط الدين في مسائل سياسية يفترض به أن يكون على مسافة متساوية من مختلف التوجهات فيها

أن يكون غرض المؤسسة ضبط السلوك الديني، ومنع الانحرافات السلوكية والعقائدية أو الحد من التقوُّل الجاهل في أمور الدين، فهذا أمر ضروري لضمان وحسن سير المؤسسة الدينية. لكن أن تكون هذه المسوغات عناوين عامة، تطبق على أشخاص بطريقة تعسفية ولدواع سياسية خالصة، ووسيلة عقاب لأشخاص على مواقفهم السياسية وأرائهم الفكرية، في أمور لا تتصل بالدين أو يكون فيها الدين على حياد منها، أو يحتمل تعدداً واختلافاً حولها، فهذا لا يعود موضوع تنظيم ديني، بل  توريط الدين في مسائل سياسية، يفترض به أن يكون على مسافة متساوية من مختلف التوجهات فيها.  بالتالي يصبح الدين مرتهناً لمواقف سياسية خاصة، بل أداة سلطة، تفقد معها المؤسسة الدينية صفتها العمومية، أي الاعتناء المتساوي بجميع أبناء طائفتها، مهما تنوعت وتعددت الأراء في داخلها. 

لم يترك القرار أي مجال احتمال لحسن الظن فيه، إن لجهة شكله وإن لجهة مضمونه. فمن جهة الشكل، تبرز مشكلة التوقيت التي جاءت إثر أحداث مخصوصة، ذات طابع اجتماعي وسياسي معاً حصلت في لبنان، وجاء القرار في سياق عقاب الشيخ ياسر عودة، على موقفه المتمايز والمختلف عما هو متحكم في الإعلام والقرار الشيعيين، ما يجعله قرار غب الطلب لصالح جهة سياسية. 

كذلك فإن لكل شخص من الأشخاص المذكورة أسماءهم في القرار، حيثية مختلفة عن الآخر، بالتالي لا بد لكل شخص أن يصدر بحقه قرار على حدة، مع ذكر حيثية القرار ومعطياته الموضوعية.  إضافة إلى كل ذلك، فإن القرار أشبه بحكم قضائي، ما يتطلب أن ينصف كل من صدر بحقه القرار، بمنحه الحق بالدفاع عن نفسه، ثم يصدر الحكم أو القرار بعد استكمال سبل التقصي والاستكشاف بحق كل شخص.  هي أمور تبين درجة تعسف ومزاجية هذا القرار، باستجابته لميول ورغبات وانحيازات شخصية، أكثر من تقيده بالمبادىء التقوائية والأخلاقية، ومراعاته لمسلمات وأصول إصدار الأحكام .

لكل شخص من الأشخاص المذكورة أسماءهم في القرار حيثية مختلفة عن الآخر بالتالي لا بد لكل شخص أن يصدر بحقه قرار على حدة مع ذكر حيثية القرار ومعطياته الموضوعية.

 أما في المضمون، فابرزها تسييس الدين وتحويله أداة عقاب وترهيب، وتهديد للشخصيات التي تتميز بمواقف مختلفة ومستقلة. ما يفقد المؤسسة الدينية وظيفتها الدينية، ويحولها إلى مؤسسة سياسية تابعة للقوى المتنفذة، لتكون بمثابة سيف مسلط على أصحاب الرأي الحر والمستقل.  الأمر الذي يحدث إفراغاً للدين من مضمونه، وحتى من قداسته، ويتسبب بتديين السياسة، أي إسباغ صفة دينية على الموقف السياسي، بأن يتحول من فعل بشري محدود إلى فعل مقدس، تكون مخالفته مخالفة للدين وانتهاكاً للعقيدة.

كل ذلك يطرح الشكوك حول أهلية وصدقية، ليس بحق من أصدر القرار فحسب، وإنما المؤسسة الدينية بأسرها، لجهة التجاذبات في داخلها وتعدد التيارات فيها، وتحولها ساحةَ صراع على النفوذ والسلطة بين قوى الأمر الواقع.  ما يستدعي إعادة هيكلة المؤسسة من جديد لتحقق أموراً عدة أهمها: أولاً تحقيق استقلاليتها التامة عن القوى السياسية المتنفذة، لتكون قادرة على ترتيب بيتها الداخلي، ولتؤكد عموميتها واعتنائها بجميع أبناء الطائفة الشيعية، مهما كانت مواقفهم السياسية أو الفكرية.

ثانياً الفصل الصارم بين الموقف الديني والموقف السياسي، لينحصر عمل المؤسسة برعاية الأمور الدينية، وعدم التورط في الصراعات والتباينات والسجالات القائمة، ليحتفظ الدين بتعاليه على الصراعات وأشكال التحريض، التي تمارس في لبنان بإسم الدين.  ثالثها ضبط الفوضى الحاصلة في العمل الديني ومؤسسات التعليم الديني والحوزات الدينية، والحد من الغلو المنتشر كالنار في الهشيم في البيئة الشيعية، وإعادة بناء ثقافة رجل الدين وتطوير بنيته المعرفية، التي تزداد الفجوة بينها وبين متغيرات المجتمع ومتطلبات الحياة المعاصرة.   رابعها: وضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، لترسيخ ثقافة الدولة وتعزيز الإنتماء إلى الوطن. فلا تعود الفكرة الشيعية حقيقة افتراضية مطلقة، معلقة في الهواء وخارج التاريخ، بل من صميم واقع اجتماعي وثقافي عينيين ومحددين.

القرار الذي صدر هو خطأ معيب بحق الطائفة الشيعية في لبنان، التي اشتهرت بتنوع الإتجاهات الفكرية وتعدد الانتماءات السياسية فيها، وخطيئة بحق التشيع الذي كانت سمته الاساسية عبر التاريخ، الشك الدائم بنوايا السلطة السياسية القائمة، والبقاء على مسافة منها. وهو سلوك ضمن للشيعة استمراريتهم السلمية، وقدرتهم على التكيف والتبيؤ داخل أية بيئة مهما تنوعت وتعقدت، ومهما كانت درجة عدوانيتها .  هو قرار كان استنكاره وتبرؤ المجلس الإسلامي الشيعي منه فضيلة كبرى. 

السابق
ارتفاع في أسعار المحروقات
التالي
الإمام الصدر.. إمام بحجم وطن