الإمام الصدر.. إمام بحجم وطن

إن كل طلقة تُطلق على دير الأحمر أو القاع أو شليفا… إنما تُطلق على بيتي وعلى قلبي وعلى أولادي، وأن كل فرد يساعد على تخفيف التوتر أو إطفاء النيران، إنما يساهم في إبعاد النار عني وعن بيتي وعن محرابي ومنبري. (السيد موسى الصدر، مسجد الصفا – الكليّة العاملية، ٢ تموز ١٩٧٥).
كلمات قصار أطلقها إمام بحجم وطن، تحمل بين حروفها معانٍ كبيرةٍ ومفرداتٍ ذاخرةٍ بالأمل، بعيشٍ مشتركٍ في وطنٍ تكون فيه الأديان بخدمة الإنسان.

كلمات قصار أطلقها إمام بحجم وطن تحمل بين حروفها معانٍ كبيرةٍ ومفرداتٍ ذاخرةٍ بالأمل


كلمات ترجمها الإمام الصدر فكراً نيّراً وثقافةً بنّاءةً وإيماناً مقترناً بالعمل، موضحاً “نريد لبنان للإنسان لا للمحتكرين” معتبراً “أن من لا يحب الإنسان ولا يخدمه، لا يؤمن باللّٰه” مؤكّداً “أنه مع المظلومين من كل الطوائف” فالظالم بعقيدته لا دين له.
هذه المواقف المشرّفه للإمام الصدر، أرعبت المحتكرين وأغضبت المتربّصين بالبلد في الداخل والخارج، فشعروا بخطورة بقائه بفكره السامي وجرأته الإستثنائيّة، فعزموا على تدبير المكائد ،وأوعزوا إلى أذرعتهم الخبيثة أمر التنفيذ واختيار الزمان والمكان المناسبين، فكان ذلك أثناء سفر الإمام الصدر إلى ليبيا للقاء العقيد معمّر القذّافي في 31 عام 1978. فغيبوه لتنكسف ظهيرة ذلك اليوم المشؤوم، شمس المحبّة، والتسامح، والعيش المشترك، ليطغى ظلام الحقد والفتنة ويسود القتال، وسفك الدماء، كاشفاً عن ضغائن تكتمها النفوس مؤجّجةً “حرباً أهليّة” ما زالت تبعاتها الوخيمة تلاحقنا حتى هذا اليوم.

هذه المواقف المشرّفه للإمام الصدر أرعبت المحتكرين وأغضبت المتربّصين بالبلد في الداخل والخارج فشعروا بخطورة بقائه بفكره السامي وجرأته الإستثنائيّة فعزموا على تدبير المكائد


وكيف لصدرٍ وسع لبنان بأهله وشعبه، وحمل همومه وأعبائه، متنقّلاً من بلدٍ إلى بلد، باحثاً عن حلولٍ جذريّةٍ لمشاكله، رافضاً المساومة على اي حقٍّ من حقوقه، أن يسلم دون أن يدفع الثمن، فهذا ديدن أسلافه وأقرانه من العلماء والعقلاء والصلحاء، يدفعون ثمن إخلاصهم لوطنهم، وولائهم لقضيتهم، “قضيه الإنسان”، ثمن الإصلاح ومحاربة الفساد والفاسد، ولما العجب؟ وكلنا نعرف ما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام) عندما ثار طالباً الإصلاح، فهل الذي ظلم الإمام الحسين (عليه السلام) وقتله سيرحم غيره؟ فالظالم نفسه، والقاتل نفسه، ألا وهو الجهل الذي عبّر عنه الإمام الصدر بأنّه ظلام، والظلام برأيه يهرب أمام النور “الفكر” وانتشاره.
إن مبدأ تجهيل الشعوب، هو ركيزة أساسية لبناء نظامٍ فاسدٍ يتوافق مع أطماع أصحاب المصالح السياسيّة الضيّقة، فالجهل سلاحٌ فتاكٌ، يستخدم للهيمنة على الشعوب والتسلّط عليها، في ظلّ تآمر ضعاف النفوس وخنوعهم، فما أن يتواجه الفكر والجهل، حتى تتطاول الأيادي الآثمة غدراً ومكراً، للتخلّص من ذلك الثائر المفكّر، والقضاء عليه ولهذا غيّبوا الإمام الصدر.
لوهلةٍ ظنّ الفاعلون أنهم نجحوا في إنهاء مسيرة الإمام، لكنهم تفاجئوا من انتشار أفكاره بين كافة الناس، وفي مختلف الطوائف والمذاهب، فهو الذي كسر حواجز الطائفيّة ،وجمع الناس حول المعنى الحقيقي للوطنيّة، ووضع الأسس الوحدويّة، وأرسى أفكاره وأخلاقه قواعد تعليميّة، ينطلق منها كلّ فردٍ إلى الوطنيّة، التي عمادها الإنسان وقوامها الإخلاص للوطن.
لقد سعى المتربّصون بالوطن كثيراً في سبيل القضاء على فكر الإمام الصدر، الأمر الذي يعتبر على درجةٍ عاليةٍ من الخطورة، فإن تغيب الإمام “الجسد” رغم قساوة العمل وفظاعته، يبقى أقل خطراً من تغييب الإمام “الفكر”، لتعطيل دوره، معتمدين أولاً على أننا شعب لا يقرأ، وثانياً على الجهل “السلاح” الذي استخدمه المحتكرون، لتعمية الناس تمهيداً للهيمنة عليهم، وللأسف كانت تبعاته مدمّرةً منذ الحرب الأهلية وصولاً إلى حادثة الكحّالة، التي نسأل اللّٰه أن تكون الأخيرة، ففي كلّ مرّة نتفاجئ بـ “القلوب المليانة” و “الإستشراس في الإقتتال”، بين أبناء البلد الواحد والجلدة الواحدة.

لوهلةٍ ظنّ الفاعلون أنهم نجحوا في إنهاء مسيرة الإمام لكنهم تفاجئوا من انتشار أفكاره بين كافة الناس


إنها السنة الخامسة والأربعين التي يمر فيها 31 آب، مجدّدةً الحزن والألم في قلب لبنان وشعبه، باختلاف طوائفهم ومذاهبهم، ذكرى تغييب الإمام الصدر مخلّفةً في الكيان اللبناني ثلمةً لا يسدّها شيء.
إننا في هذه الذكرى الأليمة إذ نشدّ على أيدي الغيورين على لبنان، الخائفين على مستقبل أبنائه، المخلصين لوحدته وانتمائه، ان يسعوا جاهدين في سبيل إحياء ثقافة الإمام الصدر وتعاليمه، من خلال الحثّ على إعمال العقل وتنمية الوعي والفكر، وبث روح المحبة والاخوة والتسامح والعدل والخير والإحسان والعمل والأمل، فجوهر الحياة الحقيقي يكمن في أن يعيش الإنسان إنسانيته مع أخيه الإنسان.
عد يا صدر الوحدة والتعايش، فإن الوحدة التي حميتها بعمامتك الشريفة وعباءتك، عبثت بها أيدي التعصّب والتزمّت والتكفير، سعياً وراء الفتنة البغيضة.
عد يا صدر المحرومين، فإن المحرومين قد أشبعهم حكامهم شعارات وهميّة، وانجازات خرافيّة، فما ازدادوا إلا حرماناً.
عد يا صدر الوطن، فإن وطناً اعتكفت في مسجدك لسلامته، مزّقته أحزابه وعاثت فيه قتلاً ودماراً وفساداً.
أعاد الله الإمام الصدر ورفيقيه بخير.. وحمى لبنان.

السابق
وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: قرار معيب بحق الشيعة
التالي
كهرباء لبنان: للمرة الأولى منذ سنوات موازنة المؤسسة بدون عجز مالي