رفيق الحريري ولبنان الغد

رفيق الحريري

طاقات اللبنانيين ومواردهم، لمواجهة نتائج صراعاتهم لم تكن وفيرة عندما وضعت حربهم أوزارها. الدولة في انهيار والاقتصاد أشلاء والأرزاق والناس نهب لمن تطال يده؛ فيما الجيوش الأجنبية منتشرة؛ احتلال مكشوف ووصاية سافرة على مجمل أرض البلاد.

العودة إلى سورية بلد طبيعي، أمره وحياة مواطنيها وإحقاق العدل بينهم؛ كل هذا السعي كان يعد برحلة شاقة طويلة؛ بدأت آنذاك وهي لا تزال قائمة.

كان على اللبنانيين أن يعودوا إلى عيشهم المشترك، الذي نبذته كثرة بينهم، وهشمته الحرب بوحشيتها وشلعه سفك الدماء.

كان عليهم أن يعودوا إلى المشترك الذي يجمعهم، لتعود الحياة إلى بلدهم، وتكون لهم فيه حياة.

الحرب شكلت إخفاقاً عميقاً لفكرة لبنان ومعناه، وصورة اللبنانيين وزعمهم عن نفوسهم وعن طنهم؛ سقطة لا تزال تداعياتها تؤرق حياتهم وتنكد مسار عيشهم.

قيمة رفيق الحريري وحضوره في لحظة من هذا المسار الصعب، أنه كان يرمز لذلك المشترك الذي دفعته الحرب من صدارة التجربة اللبنانية إلى هامشها؛ العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين؛ الدولة وضرورة استرجاعها وبناء مؤسساتها على أسس الحرية والديموقراطية؛ أولوية التعليم في إحداث التقدم ومواكبة الحداثة، وحرية هذا التعليم وعصريته؛ الانفتاح على العالم اقتصاداً وثقافة، وتكامل المصلحة اللبنانية مع المصلحة العربية، وحضور لبنان المتميز في العالم العربي، ركن في الثقافة المشتركة، وصورة مشرقة لتألق العرب ونهضتهم.

هي المبادئ التي صنعت نجاح لبنان الحديث وأطلقت نهضته وازدهاره، لؤلؤة خمسينات وستينات القرن العشرين؛ حقبة يرنو إليها لبنانيو هذه الأيام، وقد غلبتهم مشاريع الغلبة واحد في إثر آخر.

استهوى الرئيس رفيق الحريري مواطنيه واستقطب غالبية معتبرة بينهم بصفات كان يعرف إنها تحتل مرتبة عالية في سلم قيمهم؛ قدم عصامية ونجاحه وتفاؤله بالحياة وإيمانه بالله؛ وقدم دأبه الاستثنائي على العمل وصبره على صروف الدهر ومحن الحياة.

الحريري قدم عصامية ونجاحه وتفاؤله بالحياة وإيمانه بالله وقدم دأبه الاستثنائي على العمل وصبره على صروف الدهر ومحن الحياة

كان ذلك رهان، كانت هناك مخاطر، لأن قوى مضادة كانت حاضرة ومعادية، وهي كانت قوية ولا تزال.

لم يأت طموحه من فراغ؛ واكب الجهود الدؤوبة التي كانت تبذل في الداخل وفي مراكز القرار الدولي والعربي، لوضع حد لاقتتال الفرقاء، ولتحييد ما أمكن من العوامل الخارجية.

بناء القواسم المشتركة، حجراً بعد آخر، ولبنة إثر أختها، تلك كانت حرفة قوى الاعتدال أثناء سيادة قوى الحرب. انضم رفيق الحريري إلى هذه الحرفة، مضيفاً إمكاناته الكبيرة، وصولاً إلى دوره المحوري في صياغة الاتفاق الطائف، الذي أنهى خمسة عشر سنة من الاقتتال في لبنان وعليه.

“فلك نوح” هو اتفاق الطائف؛ فيه أبحر اللبنانيون سحابة ثلاثة عقود بحلوها ومرها. بنجاحاتها وإخفاقاتها؛ ولا يزالوا مبحرين في طوفان الشرق الأوسط الذي يزداد هولاً؛ شعوب تتمزق ودول تنهار؛ مبحرين ولا من يرسل بعد الاغتيال المفجع حمامة تعود إلى أهل الفلك بنبتة زيتون، تبشرهم باقتراب يابسة الحياة الطبيعية والسكينة الوطنية والسلام.

إنهاء الحرب بموجب اتفاق الطائف اقتضى مقاربة، وازنت بين البناء على القواسم المشتركة في الداخل، وبين اعتماد الواقعية والقبول بمصالح الخارج حيث انعدم أي خيار آخر. سوى أن الطائف، وهو يقيم دولة نهاية الحرب، أبقى باب الإصلاح مفتوحاً على قيام دولة الغد، ونظام أكثر قدرة على محاكاة تطورات البلاد الاجتماعية والاقتصادية.

باسم الواقعية جرى القبول بشروط النظام السوري لما جرت تسميته علاقات مميزة؛ وما تضمنته إن بالصياغة أو بالممارسة اللاحقة، من انتقاص للسيادة الوطنية واستقلال البلاد.

وباسم الواقعية إياها قبلت القوى السياسية أن تحتفظ ميليشيا بعينها بسلاحها، وأن تناط بها مهمة تحرير الجنوب، بالانفراد عن سائر اللبنانيين؛ ثم أن يجري تحريف هذه المهمة، وعرقلتها عندما كانت متاحة، وإدامتها عندما كان إنجازها ممكناً؛ خدمة لكل المصالح الإقليمية، ما عدا المصلحة اللبنانية.

ورغم منطقية القبول بهذه الإملاءات في حينه، ثمناً لإنهاء الحرب؛ إلا أن أثقالها رتبت على البلاد، ولا تزال، أثماناً باهظة؛ أفدحها شريعة القتل التي سادت ولا تزال، مردية بباقة من نخبة البلاد وزعمائها، والتي لم يسلم منها رفيق الحريري؛ شريعة القتل التي دمرت بيروت ومرفئها؛ كارثة فتحت في الذات الوطنية جرح ينزف، وينذر جراء العالجات الفظة والتدخلات المجرمة، بأخطر الضاعفات.

اغتيال رفيق الحريري كان الحدث المدوي ولكن قبل ذلك وبعده أن يصبح القتل السافر والبطش العاري هو الوسيلة العادية لتناول المسألة السياسية والبت بها

اغتيال رفيق الحريري كان الحدث المدوي؛ ولكن قبل ذلك وبعده، أن يصبح القتل السافر والبطش العاري هو الوسيلة العادية لتناول المسألة السياسية والبت بها؛ فأي اتفاق يقوم، وأي نظام يحكم؛ مهما كانت فضائل هذا ونقائض ذاك.

الحياة السياسية، ومثلها المجتمع، أسوة بالكائنات الحية، تختزن قدرة محدودة على احتمال العنف والوحشية. هل بقي رفيق الحريري في سدة الأحكام أكثر مما اقتضت أوضاعه وأوضاع البلاد؟

هل أخطأ في تقدير قدرته وقدرة لبنان وشعبه الذي استودعه الله، عندما أدرك الخطر المحدق، على الاحتمال؟
قامت السياسة الاقتصادية للدولة في تسعينات القرن الماضي على استلهام نظرية اقتصادية معتبرة؛ التوسع بالإنفاق الحكومي لتحقيق الإعمار من جهة، والتشدد في حجم الكتلة النقدية، محافظة على قيمة النقد الوطني. خطة ما لها وما عليها؛ المناقشة في جدواها وتوقيتها والاستمرار فيها جائز؛ وجائز أيضاً ومشروع، النقاش في تفاعل مؤسسات الدولة وإداراتها مع الخطة الاقتصادية وبرنامج الإعمار.

ولكن أي خطة اقتصادية قابلة للصمود والتحقيق، تحت وطأة نهج الوصاية، القديمة التي زالت، والمستجدة الساعية لتثبيت أركانها؟

إقرأ أيضاً: تقاذف المسؤوليات في تفلت الدولار «المتصاعد» على وقع انهيار النقد وأعمال العنف!

قرى سياسية وأجهزة قمع وقتل؛ تستهدف الدولة لتفكيكها، والموارد لنهبها والكيان لإلغائه.

وكما الأسئلة، فالأجوبة أيضاً جائزة، وهي متعددة؛ ويبقى أبلغها جميعاً نهر الدماء الجارية في لبنان، والتحقيقات الممنوعة، وسير العدالة المتوقف والمستحيل.

وتبقى ضرورة لاستخلاص العبر؛ وأوجهها أن الاقتصاد في خدمة مشروع سياسي، مهما كانت مشروعيته، وهي في هذه الحالة إعادة بناء دولة دمرتها حرب أهلية، مسألة فيها نظر؛ فمن يضبط نهم السياسة والسياسيين؟ وها هم اللبنانيون ينزلقون جماعات إلى مستنقع الفقر ويتخبطون في عذاباته؛ ومن بينهم فرق تصورت أنها ناجية، وأن الريوع التي تأمنت لها معين لا ينضب.

والعبرة التي تلي هي أن المشكلة الاقتصادية متجذرة وقديمة قدم الدولة، منذ المتصرفية، وصولاً إلى الجمهورية، فيما اللبنانيون شغفهم بالسياسة، لا يولون الاقتصاد أهمية إلا عندما يلسعهم بناره.

هل أخطأ الحريري في تقدير قدرته وقدرة لبنان وشعبه الذي استودعه الله عندما أدرك الخطر المحدق على الاحتمال؟

معضلة أرض لا تنتج كفاية بينها، ولا تلبي تطلعهم للترقي، جيلاً بعد جيل بمواردها وطاقاتها.

وما واقع الاغتراب إلا التعبير الدرامي عن هذه الحقيقة، رغم جمالية الأدب والشعب والمغنى والموسيقى في سعيها للتخفيف من ألم الغربة.

حقيقة يجب أن تكون حاضرة خلال السعي المحتم لإعادة بناء الاقتصاد الوطني؛ ضرورة بنائه بالموارد المتاحة في الداخل ومن المغتربات، وبالاستناد إلى حكمة أمهات لبنان أن، “على قد بساطك مد رجليك”.

والعبرة الأخيرة ربما، هي أن أسباب المعيشة المؤمنة من حيث مداخيلها وديمومتها موجودة في مجالات الاقتصاد، في الوطن وفي بلاد الله الواسعة؛ واللبنانيون كانوا وما زالوا سباقين في زيادة هذا البعد من أبعاد العولمة؛ هنا وهناك سطع نجم رفيق الحريري في زمانه، وسطعت قبله وبعده نجوم وأقمار.

وأن لا أمان ولا ديمومة في التوظف التسكعي الكثيف في إدارات الدولة وأسلاكها: فهو يؤدي بالمتوظفين إلى الفقر، وبالدولة إلى الفشل، كما هي الحال في هذا الزمن الرديء.

كما “سيزيف” في أسطورته وكما في الاقتصاد، كذلك في السياسة وفي ضرورة إعادة بناء دولة تتحلل دون هوادة؛ سوف يتعين على اللبنانيين حمل الصخرة والعودة إلى تسلق الجبل.

الحكمة تقضي أن لا يندفعوا للخروج من الفلك اليت يحميهم؛ أن يعتصموا باتفاق الطائف حفاظاً على وحدتهم الداخلية واتقاء لعواصف المنطقة العاتية.

أن يتشددوا في مسألة وحدة البلاد، وأن ينفتحوا وبدوا مرونة في مسألة مركزية الدولة.

ها هي الدولة تحتضر أمام عيونهم؛ أن يتأملوا ويتفكروا في حجمها، في ازدواج إداراتها وأسلاكها مرات بسبب حدة الطائفية فيها؛ دولة هائلة، مسطحة وفاقدة الفعالية، لا تأثير لمؤسسة فيها على أخرى، بسبب حدة الطائفية في تكوينها.

وأن يستلهموا نافذة الإصلاح التي قدمها لهم الطائف بالمركزية الموسعة؛ أن يطبقوها بما يتيح للمناطق اللبنانية أن تنهض اقتصادياً بطاقات أبنائها ومواردهم؛ أن ينطلقوا من المجالس البلدية الحالية واتحادات البلديات بتنوعها الاجتماعي والطائفي، لتحقيق تكامل اقتصادي فيما بينها؛ أن ينشئوا مجالس محلية واعدة ويمكنوها إنسانياً ومالياً بما يسمح لها بإحداث التنمية فيجد الناس أسباب معيشة حيث يعيشون؛ وأن يحصنوها بقانون انتخاب يرتكز على نسبية واضحة، بما يضمن أن يركن الناخبون إلى الاعتدال في الخيار وإلى ضرورة وحكمة التسوية في تناول الشأن العام.

فيما كانت الوصاية تطيح بمواعيد الطائف لجهة الانسحاب العسكري التدريجي، راحت توصد نوافذ الإصلاح وتطور الدولة التي فتحها؛ فأصبح من باب الهذيان مجرد التطرق إلى ثلاثية إنشاء الهيئة الوطنية لبحث في مسألة الطائفية في النظام السياسي؛ كمدخل لإحداث الإصلاح الأبرز المتمثل بإنشاء مجلس شيوخ؛ ثم خوض المغامرة السياسية الكبرى بانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي.

خبا هذا الأفق الإصلاحي تحت وطأة الوصاية الأولى وممارساتها؛ ودفع رفيق الحريري حياته عندما استجمع عزمه واعترض على ما تحول إدماناً في السيطرة والغطرسة وتشجيع التطرف في البلاد وإعلاء شأن المتطرفين.
أعطى اللبنانيون شهادة رفيق الحريري حقها في 14 آذار 2005.

ثم كان صباح وكان مساء، وصعد جبل جديد إلى ساحة العمل الوطني في 17 تشرين؛ وتحققت وحدة في الحركة الشعبية ضد مفاعيل المحاصصة الطائفية في إدارة الشأن العام، وضد الأحزاب الطائفية وزعمائها. الشعور، لا بل القناعة، أن إقفال أفق الدولة على المحاصصة الطائفية سبب رئيسي من أسباب الانهيار؛ هذا كان حاضراً في شوارع البلاد على الساحل من الشمال إلى الجنوب وفي مدن الداخل على حد سواء.

تفشي العامل الطائفي في أوصال الدولة هو سبب التراجع المضطرد في مستوى الحاكمية وفعاليتها

وكان ما كان حاضراً بالتوازي هو قدرة الأحزاب الطائفية على الفعل المضاد، بالمخاتلة والنفس الطويلة مرة، وبالقمع المباشر مرات، وبافتعال الصدامات الطائفية في كل المرات. تضاعفت مناعة هذه القوى منذ فاجعة 14 شباط، وزادت سيطرتها بما يقارب إنتاج وصاية مستجدة.

ثم هناك عمق التعقيدات التي تعتري قناعات اللبنانيين في تناولهم المسألة السياسية. خلال أحداث السنوات الثلاث الأخيرة، جمهور معتبر نزل إلى الساحات، رفضاً للصيغة الطائفية التي تقوم عليها الدولة؛ افتقاد البرنامج المكتمل والقيادة الموحدة، لم يمنع الناخبين أن يمحضوا هذا الطرح عدداً من النواب. ثم خلال نفس العملية الانتخابية انتخب جمهور معتبر آخر، مجدداً ثقته بالأحزاب الطائفية، رغم حدة الأزمة سياسياً واقتصادياً.

هما منطقان قائمان منذ الاستقلال في تناول تكوين السلطة في البلاد. منطق مآله أن التمثيل السياسي أساسه الهوية؛ وبخلاف ذلك تصبح الجماعة الأساس للاجتماع السياسي، وهي الطائفة، مهددة في وجودها وأسلوب عيشها وثقافتها، وحتى في عقيدتها.

والمنطق الآخر قوامه أن سيطرة الطوائف على الدولة تشكل العائق الرئيسي، الذي يحول بين اللبنانيين وبين الحكومة الصالحة؛ وأن تفشي العامل الطائفي في أوصال الدولة هو سبب التراجع المضطرد في مستوى الحاكمية وفعاليتها.

استحداث مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف بشكل دائم وبالتساوي، إلى جانب مجلس نواب منتخب خارج القيد الطائفي، من شأنه فتح المجال أمام المنطقين للاستحواذ على قناعة اللبنانيين؛ وأن تتمثل المقاربتان ضمن مؤسسات الدولة.

وربما يفتح استحداث الشيوخ الباب، في المدى المتوسط، على فكرة تداول الرئاسات بين كل الطوائف اللبنانية، بما يشكل خطوة مؤثرة في رفع القيد الطائفي، وعدالة التمثيل السياسي في آن معاً.

تحقيق خلاص لبنان من سطوة آلة القتل وسعيها إلى إحكام السيطرة المطلقة ترسم هذه الإصلاحات طريقاً لدولة يمكن للبنانيين أن يركنوا إليها

رغم صعوبة الأوضاع؛ وإذا تضافرت الإرادات في الداخل والخارج لتحقيق خلاص لبنان من سطوة آلة القتل وسعيها إلى إحكام السيطرة المطلقة؛ ترسم هذه الإصلاحات طريقاً لدولة يمكن للبنانيين أن يركنوا إليها؛ دولة بحجم يتناسب مع البلاد واقتصادها؛ تنتقل تدريجياً من مواقعها الطائفي إلى مرتجى الدولة المدنية المؤتمنة على حياة اللبنانيين وغدهم.

لعل في هذا ما يعوض بعض الشيء، ويعزي في غياب رفيق الحريري، وكل الذين أزهقت أرواحهم، وما آلت إليه أوضاع البلاد بعد غيابه.

السابق
ابراهيم يدّعي على 22 صرّافاً بجرم صيرفة غير شرعية!
التالي
بإنتظار عودة الوفد الاوروبي..حاموش يتلقّف «كرة النار» في ملف سلامة «اللبناني»!