وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الزلزال ومصالحة النفس والطبيعة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

علاقة الإنسان مع الطبيعة، لا تتوقف في عنفها وتوترها وقلقها. فالطبيعة، بخاصة الأرض، لا تني تفاجىء الإنسان وتنقلب على توقعاته، وتكسر أكثر القوانين والمعادلات، التي وضعها طوال حياته، ليكون بإمكانه التنبوء بما يصدر منها، وينظّم على أساسّها حياته، إضافة إلى قدرته على التحكّم بمصيره. لكن هذه الطبيعة، وبعد كل فترة استراحة واستقرار، تفاجىء الإنسان وتأتيه من حيث لا يحتسب، لتثبت له أنها صاحبة الكلمة الأخيرة والموقف الحاسم، وأنها تسبقه بأشواط أبعد مما يتخيل أو يتوقع.

كان الإنسان الأولي، مع قلة درايته بما يحصل حوله وضعف إمكاناته في حماية نفسه من المظاهر المرعبة في الطبيعة، كان أكثر اتصالاً بالأرض، ويدّعي نسباً بينه وبين الكثير من نباتاتها وحيواناتها، بل كان يرى جمادها ذوات أرواح، ويخاطبها ككائنات حية وعاقلة، ولا يجد لنفسه تمايزاً عنها أو سلطة عليها. وكان يتعامل مع الكثير من المظاهر المخيفة أو المرعبة في الطبيعة، بكثير من التبجيل والرهبة، ويمارس طقوساً ويقدم لها قرابين ليسترضيها، ويأمن غضبها أو شرّها أو عقابها. هذه المرحلة سمّيت بمرحلة الإنسان الطبيعية، التي يرى نفسه معتمدا على الطبيعة ولا يساوي شيئاً إزائها.

منذ أن بدأ الإنسان يعي نفسه ويتبصر قدراته، بات يعتقد أنه كائن مختلف ومتميّز، وفائق على باقي كائنات وموجودات الأرض. صار يرى نفسه مدار ومحور كل شيء حوله، وأخذ ينشىء لنفسه قناعات ومعتقدات، تجعل الطبيعة معتمدة على الوجود الإنساني، وأن الطبيعة وجدت لأجله ومسخرة له. هي نزعة أخذت في البداية طابعاً دينياً، صوّرت الإنسان على صورة الله، الذي لم يعد من الطبيعة بل ورائها، أي قوة خلقت هذا الكون ونصبت الإنسان سيداً عليه.

الأمر الذي ولّد لديه ثقة بأنّه لم يعد بحاجة إلى الغيب، أو قوة إلهية تحميه وتؤيده

رغم ضمور التفسير الديني للعالم في العصر الحديث، إلا أنّ الإنسان لم يتواضع لجهة ثقته، بأنه قادر على تفسير الطبيعة والتعرف إلى مبادئها، إضافة إلى منحاه التجريبي في تعديل مسارها والتلاعب في مكوناتها، أي قادر على توقع أحداثها والتحكم بها. الأمر الذي ولّد لديه ثقة بأنّه لم يعد بحاجة إلى الغيب، أو قوة إلهية تحميه وتؤيده. بلغت ثقة الإنسان الحديث بعقله وإمكاناته درجة عالية، جعلته ينسى محدوديته وحدوده، وخلقت فيه نرجسية ذاتية لا حدّ لأطماعها ورغباتها، سوغت لنفسه لا استغلال الطبيعة بطريقة، بل العبث بتوازناتها ومساراتها.

أمور عدة، فضحت هذه النرجسية، بل أحدثت فيها جرحاً عميقاً، لم يستطع الإنسان الهروب منها. أوّلها محدودية العقل، الذي بيّن إيمانويل كانط عجزه عن إصدار أحكام تتعدى مجال يومياته، بل بيّن أن العقل ينتج نقائض حول الموضوعات الميتافيزيقية. ثانيها مقولة داروين في كتابه أصل الأنواع، القائل بأن الإنسان كائن حي مثل باقي الكائنات التي تتطور وتتحول، وليس استثناءً منها أو متعال عليها.

اللاوعي الذي كشف عنه فرويد، واعتبره اساس التكوين النفسي للفرد والموجّه لسلوكه، وما الوعي سوى قشرة عائمة على سطح الشخصية الإنسانية

ثالثها اللاوعي الذي كشف عنه فرويد، واعتبره اساس التكوين النفسي للفرد والموجّه لسلوكه. وما الوعي سوى قشرة عائمة على سطح الشخصية الإنسانية. رابعها بحوث ستراوس البنيوية، التي أكدت أن العقل الإنساني ليس سوى تكوين لا واعي، جاء من الطبيعة ويتحكم بنشاط الإنسان الذهني، ويملي عليه كيف يفكر، فالطبيعة هي التي تملي على الإنسان فكره لا العكس. هو مسار وصل إلى ذروته مع ميشال فوكو الذي أعلن موت الإنسان، أي موت مفهوم الإنسان الذي عمدت الحداثة إلى ترويجه، بتصوير الإنسان كائناً حراً عاقلاً صانعاً لمصيره، ومستنتجاً بأن البشرية تستعدّ لتتجاوز هذا المفهوم، الذي صور الإنسان في مصاف الآلهة إلى مفهوم آخر.

البشر لم ينوجدوا على سطحها ليقتتلوا ويمارسوا بحق بعضهم أبشع أنواع الإبادة والجرائم، وإنما ليقدّروا قيمة الحياة

أذكر كل هذا للقول، بأن كوارث الطبيعة المدمرة والمخيفة، بخاصة الزلزال الأخير الذي ضرب أجزاء من تركيا وسوريا، وتسبب بعدد هائل من الضحايا والدمار الكارثي، هو تذكير للإنسان بأمرين:

أولهما أن يتواضع ويتعرف إلى حدوده، ويتخلى عن فكرة أنه سيد الطبيعة وله مطلق التصرف فيها، وأن العالم لم يخلق لأجله بل هو كائن وموجود، ضمن عدد هائل من كائنات وموجودات العالم، لها الحق نفسه بالوجود والحياة. ثانيها أن البشر لم ينوجدوا على سطحها ليقتتلوا ويمارسوا بحق بعضهم أبشع أنواع الإبادة والجرائم، وإنما ليقدّروا قيمة الحياة، ويعملوا على حفظها وتقديسها بدل خنقها وتعطيلها.

الزلزال الأخير وجع إنساني عميق، لكن حدوثه في منطقة اقتتال ومجازر وإبادة، يمارسها البشر بحق بعضهم، لا تقل في كوارثها عما حصل بفعل الزلزال، بل تتجاوز مآسيها وحجم دمارها ما فعله الزلزال. هو حدث من المعيب والمخزي أن يفسره البعض انتقاماً وعقاباً من الله، ضد بشر لصالح بشر آخرين، أو دين لصالح دين آخر، بقدر ما هو تذكير بضرورة تعديل مسار الوجود الإنساني، ليتعلم الإنسان كيف يتصالح مع نفسه ومع الطبيعة.

السابق
«عواقب» زلازل تركيا وسوريا.. وهكذا تُقارن قوتها على مقياس «ريختر»!
التالي
بالصور: «الأبيض» يغطي اعالي الجنوب.. ويعزل شبعا وكفرشوبا!