بين «ثاراث» اللغة الشيعية.. و«عبث» فائض القوة!

ياسين شبلي

مشكلتان في أقل من شهر واجهتهما وسائل الإعلام اللبنانية، وتحديداً محطتي تلفزيون الجديد وال lbci، مع ما يسمى “البيئة” – وهو التعبير المعتمد في لبنان، كما هو معروف للمنضوين تحت لواء حزب الله والأنصار – ، الأولى أواخر شهر كانون الأول الماضي بسبب فقرة في برنامج “فشة خلق”، تناولت حادثة العاقبية والعلاقة ما بين “اليونيفيل والبيئة “، أُعتُبرَت مساً ب “الشرف” الجماعي للنساء الجنوبيات، والثانية منتصف الشهر الحالي أيضاً، بسبب فقرة في برنامج جديد ل “الثنائي الشيعي” الفني حسين قاووق ومحمد الدايخ، دارت حول ما أسموه “اللغة الشيعية” أُعتُبرَت كذلك مساً ب “الذات الجماعية الشيعية” هذه المرة.

كان يمكن للإعتراض أن يمر، ويعتبر في خانة رد الفعل الرافض والطبيعي، لو بقي في إطار رد “الجيش الإلكتروني” للحزب والبيئة، لكنه تخطى هذه المرة ذلك، ليكون رداً “أمنياً” تحذيرياً – على الأغلب – عبر العبوات والرصاص الذي إنهمر على مباني المحطتين المذكورتين، في إستعمال واضح لما يسمى “فائض القوة”، الذي يتمتع ويتفرد به هذا الفريق على باقي اللبنانيين.

فائض القوة ينعكس إستخفافاً بكل ما يمت للدولة وقوانينها وسلطتها

والقوة هنا بمعناها العسكري والأمني، والتي قد تُترجم أحياناً شعبياً، أو بمعنى أدق في الشارع متى دعت الضرورة لذلك كما حصل إبان التصدي لثورة 17 تشرين وقبلها، يوم قتل الشهيد هاشم السلمان أمام السفارة الإيرانية في بئر حسن، هذا الفائض الذي ينعكس إستخفافاً بكل ما يمت للدولة وقوانينها وسلطتها بصلة.

الواقع أن هذه ليست المرة الأولى التي يُستعمل فيها “فائض القوة” هذا، ضد مؤسسات إعلامية أو أشخاص ناشطين وناشطات إعلامياً، أو على وسائل التواصل الإجتماعي، خاصة ضد الأشخاص الذين يخرجون من وسط هذه ” البيئة ” وهنا يكون الغُرم أكبر، سواء كانوا معارضين لسياسة “الثنائي الحاكم” كالإعلامية ديما صادق مثلاً، التي نالها ما نالها وغيرها، أو حتى موالين لكنهم في لحظة صدق أو غضب أو سوء تقدير لردة الفعل، يأتون برأي مخالف للرأي السائد ، فيجدون أفواج “الجيش الإلكتروني” لهم بالمرصاد، وكذلك الأنصار والموالين ، ولا داعي لتعداد تلك الحالات فهي باتت معروفة ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما حصل مع الصحافي الرصين قاسم قصير قبل حوالي 3 سنوات.

من المعروف بأن “فائض القوة” هذا بدأ بالظهور علانية منذ زلزال 14 شباط 2005، الذي أدى كما هو معروف لخروج قوات النظام السوري من لبنان، فكان لا بد ل “محور الممانعة”، من إيجاد بديل يحل محل هذه القوات، فكان الظهور الأول – بداية عبر الشارع – في تظاهرة “شكراً سوريا” في 8 آذار، التي تأطرت سياسياً بعدها في ما عُرف لاحقاً بقوى 8 آذار.

بهذه المناسبة أقول أنه أثناء تواجدي في لبنان مؤخراً، وبالتحديد في الفترة ما بين المشكلتين المذكورتين أعلاه ، تسنى لي حضور ندوة في منتدى “جنوبية” كان موضوعها “شيعة لبنان بين فائض القوة ومشروع الدولة”، تحدثت فيها كل من الدكتورة غريس إلياس والدكتور محمد علي مقلد، بحضور عدد من الشخصيات والمثقفين والناشطين، في محاولة لتحليل هذه الظاهرة – فائض القوة – ومدى تأثيرها على فرصة بناء مشروع الدولة.

كان من بين الحاضرين الصديق الدكتور حارث سليمان، الذي يرفض التسليم والإعتراف بتعبير “فائض القوة” وتبعاته ، بإعتباره – وأنا أوافقه الرأي – محاولة من الأطراف الاخرى في السلطة السياسية – الطائفية، للتسليم بوحدانية السيطرة لحزب الله – ولو من ضمن ” الثنائي ” – داخل الطائفة الشيعية، والإعتراف له بحصرية التمثيل دون غيره، من أطراف الطيف السياسي الشيعي الوطني، شريطة عدم ممارسة هذا الفائض عليها، عبر مد اليد على حصتها من كعكة الحكم، بما تمثله سياسياً وطائفياً، ضمن منظومة الحكم القائم، وليس دفاعاً عن حصرية عوامل القوة ومن ضمنها السلاح في يد الدولة اللبنانية، كما يجب أن يكون.

الواقع بأن نظرة الدكتور حارث سليمان لم تأتِ من فراغ، لأنها مدعومة بالوقائع والتطورات التي أعقبت زلزال 14 شباط، وما تلاه من تفجر “ثورة الأرز”، التي أطاحت بالنظام الأمني اللبناني – السوري وأخرجت قوات النظام السوري من لبنان، في ظروف عربية ودولية مواتية، حيث كان للمكون الوطني الشيعي المستقل، دور في هذه الثورة عبر المشاركة الشعبية الواسعة، وكذلك عبر مشاركة الكثير من المثقفين والشخصيات العامة المرموقة فيها، إلى أن كان “الإتفاق الرباعي” السيء الذكر، بين تيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي، ممثلين لقوى الرابع عشر من آذار من جهة، و “الثنائي الشيعي” ممثلاً لقوى الثامن من آذار من جهة أخرى، فكان هذا الإتفاق – بغض النظر عن ظروفه والمبررات التي سيقت له يومها – بداية التسليم بوحدانية التمثيل الشيعي للثنائي، في بلد قائم على التوازن الطائفي، فكانت أولى الضربات للمكون الشيعي الوطني المستقل، الذي بلا شك يتحمل بعض المسؤولية، جراء فشله في تكوين كيان سياسي واحد، أو جبهة سياسية جامعة يومها، ليشكل أحد أطراف المعادلة السياسية.

حقق الإتفاق الرباعي مكسباً للثنائي الشيعي عامة، ولحزب الله خاصة على جبهتين، الأولى منحه فرصة إلتقاط الأنفاس، والثانية كسب إعتراف المكونين السني والدرزي بوحدانية تمثيله للشيعة

حقق الإتفاق الرباعي مكسباً للثنائي الشيعي عامة، ولحزب الله خاصة على جبهتين، الأولى منحه فرصة إلتقاط الأنفاس، في ظل الصراع الداخلي الذي إشتد بعد إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وإنسحاب القوات السورية، والثانية كسب إعتراف المكونين السني والدرزي، بوحدانية تمثيله للشيعة في المعادلة السياسية الداخلية، الأمر الذي إستكمله الحزب وإستثمره، في تفاهمه التالي مع التيار الوطني الحر فيما عرف بإتفاق” مار مخايل”، حيث إنتزع كذلك الإعتراف المسيحي به كممثل وحيد للشيعة في لبنان، هذا التمثيل الذي خاض بإسمه الحزب بعد عدة أشهر “حرب تموز” مع إسرائيل بإسم المقاومة وتحرير الأسرى، والتي كان لنتائجها بعد ذلك تأثير كبير على التطورات اللاحقة في لبنان كما هو معروف، أدت فيما أدت إليه إلى إستعمال “فائض القوة” العسكري لأول مرة في الداخل اللبناني، وذلك في أحداث 7 أيار 2008 التي كانت مفصلاً مهماً في تاريخ الأزمة اللبنانية، وليصبح ما بعدها ليس كما قبلها، بدليل تحول “فائض القوة” بعدها، إلى وصاية مقنعة في البداية، قبل أن تصبح واضحة جلية بعد إسقاط حكومة سعد الحريري بداية عام 2011، وظهور “القمصان السود” في شوارع بيروت لفرض حكومة نجيب ميقاتي الثانية يومها، وما تبعها من أحداث وتطورات باتت معروفة حتى يومنا هذا.

هذه التطورات وهذا التسليم الداخلي بمنطق “فائض القوة” لحزب الله، خاصة بعد التطورات الإقليمية من أحداث سوريا إلى الإتفاق النووي – الملغى لاحقاً – إلى تطورات اليمن، جعلت من حزب الله قوة داخلية وإقليمية لا تضاهى، بحيث باتت له اليد الطولى في السياسة الداخلية, حد نجاحه عام 2016 بفرض مرشحه ميشال عون في رئاسة الجمهورية، فكيف والحال هذه داخل الطائفة الشيعية، التي باتت تتمثل في الحكومة منذ العام 2011 ب “الثنائي الشيعي” فقط، وكذلك فقدت في برلمان 2018 آخر ما تبقى من النواب الشيعة المستقلين عن الثنائي، ليمسك بذلك الثنائي بورقة “الميثاقية” في أي تحرك سياسي في البلد.

كأن المفروض أن تكون “اللغة الشيعية” واحدة في السياسة والإجتماع والفن

وبالتالي يكون بذلك الآمر الناهي في شؤونه، ومن باب أولى داخل الطائفة الشيعية، التي كانت الضحية الأولى ولا تزال ل “فائض القوة” هذا، وما الذي حصل إبان ثورة تشرين, سواء في مناطق سيطرة الثنائي أو في بيروت، ومنها ما حصل مع الشهيد لقمان سليم في خيمته في ساحة الشهداء، والتهديدات التي تعرض لها عبر الملصقات على جدران منزله قبل إغتياله، إلا عينة مما يحصل، وأخيراً – ولن يكون آخراً بالتأكيد – ما تعرضت له قناة الجديد والحملات التي طاولت مقدمة البرنامج والممثلة جوانا كركي، وكذلك ما تعرضت له مؤخراً قناة ال lbci و”الثنائي الفني الشيعي” – بغض النظر عن رأينا بمضمون العملين – وأخطر ما فيه هو هذا الإختزال للطائفة الشيعية وتنميطها، بحيث يكون أي حديث أو أي كاركاتير عن أي شخص شيعي، وكأنه يمس الطائفة بأكملها، وكأن المفروض أن تكون “اللغة الشيعية” واحدة في السياسة والإجتماع والفن، وإذا كان الأمر كذلك وهذا هو المطلوب فعلاً، تُرى أي اللغتين هي الأفضل للطائفة الشيعية، وبالتالي للبنان والأقل ضرراً عليهما، أهي حقاً تلك “اللغة الشيعية” التي يتكلمها ويمارسها يومياً على الأرض “الثنائي السياسي”، أم تلك التي يمثلها ويعرضها أسبوعياً على شاشات التلفزة “الثنائي الفني”، ولماذا لا يكون “فائض القوة” هذا شرعياً وقانونياً ناجماً عن تفاهمات سياسية، و “لغة شيعية حوارية” بعيداً عن التحدي ولغة الفرض والرفض للآخر، سواء داخل الطائفة أم على مستوى الوطن؟

أسئلة كثيرة قد تبدو ساذجة أمام فريق لا يعترف إلا بالقوة، كسبيل لـ”الحوار” والتعامل مع الآخر، ترجمة لعقيدة سياسية ودينية لها أهداف، نزعم أنها بعيدة كل البعد عن تطلعات وأهداف المواطن اللبناني بكل فئاته، وفي الطليعة منهم المواطن الشيعي، مع التنويه والتذكير بالمقولة الشهيرة التي تختصر الكثير من الكلام ، “لو دامت لغيرك ما إتصلت إليك” خاصة في بلد كلبنان .. و”الشاطر يفهم”.

السابق
لقمان و«صديقته الشريرة».. وجهان لـ«حقيقة» واحدة!
التالي
رباح في ذكرى اغتيال سليم: نصرالله لا يخاف من الرصاص بل من الكتاب