«نزعة» القدرية و«فن» التلاعب بها!

يؤمن الكثير من الناس، إن لم نقل معظمهم،  بقدرية “تسوق” حياتهم،  تتحكّم بمراحلها كافة، وترافقها حتى النهاية. لطالما فرضت مسألة القدرية ، وما زالت، اشكالية تتعدّى حدود “الواقعي” لتطال “الماورائي”. ولسنا هنا في صدد التعمّق فيها على المستوى الديني والماورائي، و إنما مقاربتها على المستوى الواقعي نظراً لما يجري من توظيف لها في خدمة الايديولوجيا أو السياسة. وبالعودة إلى قناعة الناس بالقدرية أو إيمانهم بها، فقد أضحت هذه القناعة أو هذا الإيمان فرصة ينتهزها، أو ورقة  يستخدمها من يسعى إلى عملية “تدجين” للشعب، في سبيل تحويله إلى “قطيع” يقوده إلى المذبح، ويضحّي به في كل مرة يريد الدفاع عن ايديولوجيا معينة، أو من اجل بقاء الزعيم. 

لطالما فرضت مسألة القدرية وما زالت اشكالية تتعدّى حدود “الواقعي” لتطال “الماورائي”


ويتبدّى التلاعب بمفهوم القدرية فنّاً باعتباره يحوي “النحت”، إن جاز التعبير، إذ يعمد من يبرع فيه إلى عملية نحت فكري، ويدفع بضحاياه إلى الظنّ، بأنهم مدفوعون بقدرهم نحو هذا أو ذاك الطريق “المشرّف”. كما يعدّ  استراتيجية، باعتباره يتضمّن  تكتيكاً أو مساراً من إجراءات، تبدأ من اللعب على “وتر” الأحقية أوالأهلية، مروراً بمنحها قدسية، لتصل بعد ذلك إلى غايتها، المتمثّلة في شلّ العقل والقضاء عليه. بمعنى آخر، يتم ترجمة التلاعب بمفهوم القدرية، وايجازه  في مسألة بالغة الخطورة، و تتمثّل في  دفع الضحايا أو الطرائد  إلى الظن، بأنهم مدفوعون بقدرهم نحو هذا الطريق أو ذاك المعبّد، بالانتصارات و الانجازات والاستحقاقات و البطولات … و كأنهم ولِدوا “موهوبين” أو “مباركين” بالأحقية التي منحها الله لهم.  كما لو أن هناك تصنيفاً إلهياً بين الفائز (المبارَك) والخاسر (الملعون). تأتي سياسة “الإيهام”، لتشكّل وسيلة أو اداة فاعلة، في عملية الإطباق على عقلانية الناس، فيتمّ إقناعهم بأنه يحقّ لهم قطع الطريق، بأية وسيلة ممكنة، أمام أي محاولة لسلبهم الامتياز القدسيّ الممنوح لهم، باعتبارهم “الأشرف” و “الأنبل”.

يتبدّى التلاعب بمفهوم القدرية فنّاً باعتباره يحوي “النحت” إن جاز التعبير إذ يعمد من يبرع فيه إلى عملية نحت فكري ويدفع بضحاياه إلى الظنّ بأنهم مدفوعون بقدرهم نحو هذا أو ذاك الطريق “المشرّف

وأما بالنسبة إلى الآخرين، فهم خاسرون باعتبارهم محرومين من هذه اللمسة أو المسحة الالهية. لذلك، يستحقّون مصيرهم الأسود والكارثي، والتهميش والعزل و صولاً إلى الاقصاء.  تتضّح، هنا،  مفارقة رئيسية متعلّقة بالقدر نفسه. وتتمثل في اعتباره الضحية الأولى نتيجة التلاعب به، و إقحامه في عملية الاستلاب، و في الوقت عينه هو “السوط” الذي يتم  جلد وعي الناس به. ووصل الأمر بالتلاعب بالقدر، إلى حدّ التذرّع بوجود الفروق و الاختلافات فيه، فتم تحويله إلى معيار تفاوت ليس فقط دينياً، و إنما اجتماعياً، ومن خلاله يتم توزيع “الجدارة” بين الناس، بمعنى منحها لأناس دون آخرين. وكأن هناك قوى “مبارِكة” تختارهم دون غيرهم وتمدّهم بالقوة لكي يكونوا المنقذين و المحرّرين. ويأتي كل هذا ليجذّر ، بالطبع، التعصّب و الفتنة بين أبناء الوطن الواحد. وتخفي هذه السياسة أو الاستراتيجية، هدفاً سياسياً و إيديولوجياً، يمتثّل في ارساء نظامٍ رجعيٍ يتآكله التخلّف على المستويات كافة. بمعنى آخر، يتمّ توظيف “القدرية” بهدف إقناع الفرد، بأن جماعته أو طائفته تكفيه، و بأنها الأقوى باعتبارها مباركة، ولا حاجة له إلى وطنه. و إذا ما قاربنا هذه المسألة أكثر، فإننا نلاحظ أن مفهوم “الشرف”، يحتل حيّزاً أساسياً في عملية الاستلاب، الذي يغذي تآكل الانتماء الوطني و تعريته، لصالح تجذّر التقوقع الطائفي والنزوي. بتعبير آخر، من نال الأحقية الالهية، هو من تمّ التكرّم عليه بالشرف. وفي هذه الحال، يصبح هذا الشرف فخاً، و يحاكي عجز الفرد عن التحكّم بتفكيره وانفعالاته وردود أفعاله….وصولاً إلى عبوديته.  وعلى هذا النحو، ومما لا شكّ فيه أيضاً،  يعدّ التلاعب بالقدرية إيديولوجيا “خبيثة”، إن جاز التعبير؛  تنهش  الوعي كما ينهش مرض عضال جسداً سقيماً. و إذا ما تناولنا هذه المسألة من زاوية سيكولوجية، لوجدنا أن الفرد نفسه يعيش هذياناً بأنه قوي، وتظهر محاولته في تقزيم الآخر، و سحقه، و أذيته… ولا يظهر هذا فقط على المستوى الفردي، وإنما على مستوى المجتمع والدولة و مؤسساتها كافة. وفي هذه الحال، تتخّذ شريعة الغاب من المجتمع “موطنها”. و تفرض مسألة التلاعب بمفهوم القدرية مسألة أخرى، و تتمثل في حرية التفكير. بعد أن تتم “قولبة” العقول، يتم إيهام  أصحابها بأن لهم حرية التفكير والتعبير. وهنا لا يسعنا إلا أن نستذكر الفيلسوف باروخ سبينوزا في قوله:”نحن نظن أنفسنا أحرارا لأننا نجهل الأسباب التي تحركنا”.

وصل الأمر بالتلاعب بالقدر إلى حدّ التذرّع بوجود الفروق و الاختلافات فيه، فتم تحويله إلى معيار تفاوت ليس فقط دينياً و إنما اجتماعياً ومن خلاله يتم توزيع “الجدارة” بين الناس بمعنى منحها لأناس دون آخرين.

وجسّدت الفاشية، على مرّ التاريخ،  النموذج الأقوى عن التلاعب بالقدرية، لأنها تعمّدت عملية “التجييش” الفكري قبل السياسيّ، باعتباره “خشبة خلاص” لها، تطفو عليها، إن جاز التعبير،  لتحمي ايديولوجيتها من  تيار عقلانيّ قد يودي بها. لذلك تقصّدت تحويل الناس إلى “أصنام بشرية”، بعد أن أفرغتها من طاقاتها الفكرية و الثقافية و الاجتماعية…
خلاصة القول، يتبدّى انقاذ الفكر البشريّ من المتلاعبين بقدريته، خلاصاً للمجتمعات كافة، لأنه يجنّبها “قطعنتها”، و يعيد لها “بشريتها” أخيراً، و بحسب سبينوزا “لا أحد يستطيع أن يأخذ منا حرية التفكير.. يمكن أن يتم نصحنا، ولكن لا يجب السماح لأحد بالتفكير عنا”.

السابق
الاضرابات تعمّ القطاعات والمؤسسات العامة!
التالي
هذا موعد توفّر حليب الأطفال 1 و 2 في الصيدليات!