«أم شفيق» على خط التماس الكهربائي.. والوطني

الظلام يلف لبنان

فجأة، ومن دون سابق إنذار، سقط جابي مولّد الحي على أم شفيق، كما ملاك الموت على إنسان مسنّ ينتظر نهايته المحتومة، علّها تكون أرحم من واقعه المرير.
أم شفيق امرأة ثمانينية تملك دكان سمانة في منطقة عين الرمانة، ليس بعيداً عما كان يُعرف بخطوط التماس خلال سنوات الحرب.
هذا الدكان الذي أعال أكثر من عائلة على مدى عقود، لم يعد يؤمن مستلزماته ولا أدنى متطلباته التشغيلية هذه الأيام، بعدما اتجهت غالبية السكان إلى الشراء من السوبرماركت، على أمل توفير بعض الليرات، التي كانت كفيلة بإعالة هذه العجوز ومن تبقى من عائلتها.

اقرأ أيضاً: البلد «الغارق» بين «الثقافة» السائدة و«العائمة»!

ازاء هذا الواقع المتفاقم يوماً بعد يوم، اتجهت هذه العجوز الذكية بالفطرة، إلى تحويل دكانها لما يشبه المقهى الشعبي المتواضع، حيث يجتمع بضعة من شبان الحيّ والجوار، مرة حول ركوة قهوة من صنع يدي أم شفيق، ومرات حول زجاجة خمر حُرِموا من احتسائها في منازلهم لأسباب دينية أو اجتماعية.
بهذه الطريقة أمّنت أم شفيق وابنها، الذي يعاونها في المقهى الجديد، مقومات الصمود والاستمرار ولو في الحدود الدنيا، كما أمّنت لهؤلاء الشبان والكهول والمتقاعدين، مكاناً “شعبياً” يتلاقون فيه بشكل شبه يومي، حيث تحوّل الدكان مع الوقت إلى “منتدى”، لتبادل الآراء على كافة المستويات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة وأن “زبائن” أم شفيق من مختلف المستويات والمشارب.

أصبح دكان أم شفيق “برلماناً مصغّراً”، يضم المسلم من الشياح والمسيحي من عين الرمانة، واليميني واليساري

مع الوقت أصبح دكان أم شفيق “برلماناً مصغّراً”، يضم المسلم من الشياح والمسيحي من عين الرمانة، واليميني واليساري، والملحد والمتديّن نسبياً، والشباب والكهول… يجتمعون بشكل شبه يومي، ويتصلون للاطمئنان عن المتغيّب منهم، ويعرضون عليه خدماتهم إذا كان مريضاًً أو في مأزق معيّن.

تحوّلت هذه المجموعة مع الوقت إلى شلّة أصدقاء بحكم الأمر الواقع، يختلفون حيناً حول موضوع معين، يكون مادة لنقاش حادّ بينهم، ويتضاحكون ويتغامزون في معظم الأحيان عندما تتحوّل الجلسة إلى سخرية لطيفة من أحد الحاضرين، أو عندما يُفرط أحدهم في الحديث عن واقعة مزعجة حصلت معه خلال النهار.
والحقّ يقال أن أفراد هذه المجموعة، يجيدون بخبث تحويل التراجيديا اليومية التي يعيشها معظمهم، إلى كوميديا سوداء تصلح للعرض على خشبة أعرق المسارح.

جريمة أم شفيق، أنها لم تدفع على مدى شهرين فاتورة الاشتراك في المولد، الذي يمدها وعائلتها بالسلاح الأخير، ويمكّنها من مقاومة دخول الانهيار الاقتصادي

ذات صباح رمادي، وحينما لم يكن شمل “الأصدقاء” قد التأم بعد، باستثناء حضور شخصين أو ثلاثة يرتشفون قهوة أم شفيق المميزة، وصل “مندوب عزرائيل” إلى المقهى واتجه مباشرة إلى أم شفيق وعاجلها بالسؤال: شو؟ أومأت العجوز برأسها صعوداً ثم خفضته خجلاً مما سيحصل.
لم يفهم الحضور ماذا يحدث، حتى اتجه جابي مولد الحي إلى لوحة الكهرباء وانتزع شريطاً كان يمدّ المكان بالحياة.
صمت القبور خيّم على الحضور، إنها لحظة تشبه “الموت الرحيم” حين أطفأ الجابي المأمور آلة التنفس الاصطناعي، عن ما تبقى من جسد لم يعد يرغب أصلاً في الحياة.

جريمة أم شفيق، أنها لم تدفع على مدى شهرين فاتورة الاشتراك في المولد، الذي يمدها وعائلتها بالسلاح الأخير، ويمكّنها من مقاومة دخول الانهيار الاقتصادي الذي يضرب البلاد إلى بيتها.

صمتٌ مدوّ لم يفارق المكان، ولم يبق إلا أن تُقرع أجراس الكنيسة المجاورة حزناً، على عجوز فشلت في المحافظة على ما أفنت حياتها عليه مع شريك عمرها أبو شفيق.
أمضت أم شفيق في هذا الدكان سنوات تتجاوز باضعاف ما امضته في أي مكان آخر، حتى باتا توأمين لا ينفصلان.
الحرب نفسها لم تنجح في إقفال باب دكان أم شفيق، لكن هذا السلك اللئيم الذي انتزعه “الشبح” من لوحة الكهرباء قد ينجح في ذلك.

زاغت عينا أم شفيق وأصبحت تحدق في الفراغ، كشخص غارق في غيبوبة من هول الصدمة، وهي تراجع الماضي القريب منه اوالبعيد، تفكر من جهة بمصير عائلتها المعتمدة عليها، ومن جهة أخرى كأنها تعتذر من المرحوم أبو شفيق، لأنها لم تنجح في المحافظة على الأمانة، حتى تسلّمها لابنها ريشار ليتابع المسيرة بعد والديه.

ما هي إلا ساعات، حتى انتشر الخبر في الحيّ انتشار النار في الهشيم، وكان له وقع الصاعقة على الجميع. الكل يحب هذه الثمانينية اللطيفة حيناً، والسليطة اللسان أحياناً أخرى.

تداعى “الأصدقاء” إلى جلسة مسائية لدى أم شفيق، للوقوف على خاطرها وتهدئة روعها. هذه الجلسة لم تكن كسابقاتها، لأن العتمة كانت تهيمن على المكان، فيما الجو “مكهرب” إلى أقصى الحدود. كل فرد من المجموعة اعتبر أنه مستهدف شخصياً مما حصل، وأنه بالتالي معني بإيجاد حل لهذه المشكلة التي طالت الجميع، وأضرارها ستلحق بالكل من دون تمييز.
فجأة، ومن دون سابق إنذار، وبعدما كان قد احتسى كأسين أو ثلاثة من الخمر الرديء، انتفض أحد الحاضرين وتوجه إلى أم شفيق بالسؤال: كم هو المبلغ المطلوب من قبل هذا “المرابي” يا خالة؟

إنه مبلغ كبير يا بني، أجابت العجوز، كرّر السؤال بإلحاح: كم بالتحديد؟ خمسة عشر مليون ليرة، أجابت أم شفيق.
قفز السائل عن كرسيه وكأن عفريتاً لبسه، أزاح زجاجة الخمر والكؤوس عن صينية يقارب عمرها عمر صاحبتها، انتزع كل ما في جيبه من نقود، ووضعها عليها وراح يجول بها على الحاضرين. ومن دون تردد فعل الجميع ما فعله أولهم.
لم يكتمل المبلغ، اتصلوا بالمتغيّبين عن الاجتماع الطارئ فحضروا على عجل وشاركوا في المبادرة، حتى اكتمل المبلغ وأضيئت الأنوار خلال دقائق.

كانت أم شفيق تراقب ما يحصل بصمت، وقلبها يكاد يقفز من صدرها لا حزناً ولا فرحاً: هي حزينة على ما آلت إليه أوضاعها

كانت أم شفيق تراقب ما يحصل بصمت، وقلبها يكاد يقفز من صدرها لا حزناً ولا فرحاً: هي حزينة على ما آلت إليه أوضاعها، وهي في الوقت نفسه مسرورة لخروجها من الأزمة، التي كادت أن تدمّر ما بنته على مدى سنوات عمرها الطويلة.

عندما أضيئت الأنوار مجدداً في الدكان وعادت الحياة إلى أم شفيق، وضعت العجوز رأسها بين كفّيها وذرفت دمعتين: الأولى على ابنها الشهيد، الذي لو شهد ما حصل اليوم لما كان قد استشهد بالتأكيد، والثانية على سنوات مرّت وهي تخاف من الآخر في الشارع المقابل، فإذا بهذا الآخر هو نفسه الذي يهبّ لانتشالها عند أول كبوة.. هؤلاء هم الأصدقاء الحقيقيون، وهذه هي الإنسانية الحقة.

السابق
وفاتها تهزّ الجنوب.. رحيل الشابة بيان اختناقاً!
التالي
10 جرائم مالية ترتكبها الحكومة و«الحكّام» ومصرف لبنان!