حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: إيران تُعيد إنتاج النظام!

حسن فحص
يخص الصحافي المتخصص في الشؤون الإيرانية والعراقية حسن فحص "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

نظريا، فان الاساس الذي قام عليه النظام الايراني بعد انتصار الثورة عام 1978، كان التوازن بين الجمهورية والاسلامية، اي تقدم البعد الشعبي على الهوية الدينية للنظام، واعتبار الشعب مقدما على كل الابعاد الاخرى، بما فيها اسلامية النظام الجديد، باعتبار ان الشعب هو مصدر الشرعية والقرار للنظام والدولة.

الاساس الذي قام عليه النظام الايراني بعد انتصار الثورة عام 1978 كان التوازن بين الجمهورية والاسلامية

المسار الذي سلكته هذه الثنائية، مر بمرحلتين اساسيتين، الاولى في زمن المؤسس الذي استطاع بداية، الحد من الطموح السريع والمتسرع للاتجاه، الذي سعى لتكريس تفرد المؤسسة الدينية بالسلطة، على حساب المكونات الاخرى المدنية والقومية والوطنية، وحافظ الى حد ما على التوازن، بين طرفي المعادلة التي قام عليها النظام، اي الجمهورية والاسلامية، من خلال فرض الاحترام لمخرجات صناديق الاقتراع، وعدم التدخل بها وتوجيهها وهندسة نتائجها. في حين ان المرحلة الثانية، خاصة في العقدين الاخيرين من عمر النظام الاسلامي، شهدت تنامي نفوذ المسار السلطوي وغلبة اراء وافكار جماعة، من داخل المؤسسة الدينية لتغليب البعد الاسلامي على بعد الجمهورية، تمهيدا لاخراجه من التداول، او اسقاط اعتباره كجزء من هوية النظام، وتحويله الى “سلطة دينية”، وجعل البعد الشعبي والجماهيري والعملية الديمقراطية، مجرد ادوات غير مقررة، مهمتها “الكشف” عن الارادة الالهية والغيبية في تعيين قيادة النظام، التي تمتلك صلاحيات مطلقة غير خاضعة للمساءلة، باعتبارها تمثل ارادة الانبياء، وبما هم تجلي للارادة الالهية. 

المرحلة الثانية شهدت تنامي نفوذ المسار السلطوي وغلبة اراء وافكار جماعة من داخل المؤسسة الدينية لتغليب البعد الاسلامي على بعد الجمهورية

 ولعل من ابرز نتائج هذا التوجه الذي حكم وسيطر على الحياة السياسية في ايران، ان وجدت هذه الجماعة القدرة في نفسها، لبدء عملية اقصاء وابعاد كل من يختلف معها بالرأي والرؤية، من خلال بناء منظومة فكرية وثقافية، تتفق وتتبنى هذه العقيدة وتروج لها، مستفيدة من جميع الادوات المتاحة امامها، من مؤسسات اعلامية عبر مؤسسة الاذاعة والتلفزيون، وفنية في سينما والمسرح والفنون الجميلة، والمؤسسات الترفيهية والاجتماعية، مرورا بالجامعات والمؤسسات التعليمية، وصولا الى المؤسسات الانتاجية والصناعية. لتكون بمثابة الواجهات التي يستخدمها النظام، لاظهار حجم التأييد الشعبي، الذي لا يقتصر على العامة من الناس التي تشكل قاعدته الشعبية، بل داخل اوساط الطبقات المتعلمة والمثقفة والمختصة والتكنوقراط. وايضا لاظهار حجم الانجاز الذي يشكل مؤشرا، على التقدم الذي احرزته ايران في ظل هذا النظام والسطلة الحاكمة.

باتت مؤسسات النظام العقائدية والعسكرية والامنية مجبرة على الدفاع عن نفسها وعن النظام

ولعل ما احدثه الحراك الشعبي الاعتراضي، والاحتجاجات التي شهدتها ايران خلال الاشهر الماضية، نتيجة الشرارة التي اطلقها مقتل الفتاة مهسا اميني على يد شرطة الاخلاق، ان باتت مؤسسات النظام العقائدية والعسكرية والامنية، مجبرة على الدفاع عن نفسها وعن النظام، واستعادة الحديث عن المعادلة المؤسسة “الجمهورية الاسلامية”، بما يشبه حالة اقرب الى تقديم جردة حساب بالانجازات، التي تحققت على المستويات العلمية والصناعات العسكرية. ولعل اللافت في هذه الجردة انها جاءت من قبل مؤسسة حرس الثورة، الذراع الضارب لمشروع اسلمة السلطة والنظام، على حساب البعد الشعبي والجمهوري والديمقراطي في حده الادنى الذي تبقى منه، فضلا عن انها تعتبر الاداة التي تقوم على تطبيق وتنفيذ توجهات المرشد الاعلى، بما هو ولي فقيه “واجب الطاعة”، وتتعامل مع اوامره كأجراء عسكري لا اعتراض عليه او مناقشته. 

وعلى الرغم من محاولات حرس الثورة استعراض الانجازات التي تحققت في ايران، الا انه لم يستطع الخروج من دائرة التسويغ للاحداث والاهتزازات التي تعرض ويتعرض لها في السنوات الاخيرة، والتأكيد على وجود مؤامرة خارجية، ادواتها دول وجماعات تابعة لها من الايرانيين الرافضين للنظام والمعارضين له، ويعملون على تقويضه والقضاء عليه. 

على الرغم من محاولات حرس الثورة استعراض الانجازات التي تحققت في ايران الا انه لم يستطع الخروج من دائرة التسويغ للاحداث والاهتزازات التي تعرض

الاجابة على سؤال طرحته دائرة التوجيه السياسي والعقائدي لحرس الثورة، هل ان الجمهورية الاسلامية نظام سياسي جيد ومنتج ام انه نظام فاشل؟. لا يمكن اختصاره بعدد من الانجازات العسكرية والعلمية، وبناء الطرق وتوسيع وسائل النقل المدني والتجاري، الجوية والبرية وسكك الحديد والبحرية، او في جانب البحوث العلمية وتكنولوجية النانو والفضاء، ومخلتف القطاعات العملية والطبية والصناعات العسكرية، ما لم تقترن بتنمية شاملة، تطال وتتعامل مع كل هواجس ومطالب الشعب والقوى التي انتجت وحققت هذه الانجازات.

الا ان السؤال الذي طرحته دائرة التوجيه في الحرس، لم يكن ليحصل بعد مرور نحو 43 عاما على عمر النظام والثورة، ما لم يشعر المعنيون بحجم التحدي والتهديد الذي احدثته موجة الاعتراضات الاخيرة في البنية الفكرية والعقائدية للمؤسسة الحاكمة، وما كشفت عنه من انقسام داخل المجتمع الايراني، نتيجة سياسات الاقصاء والابعاد التي مارستها المؤسسة الحاكمة وادت الى استبعاد واخراج كل الاصوات المعارضة للمسار الذي انتهت اليه السلطة والدولة، والتي لم ترحم او تقبل القوى المطالبة بالاصلاح تحت سقف النظام، والتي باتت تشكل غالبية المجتمع الايراني مع القوى الاخرى، خاصة جيل الشباب الذي احتل مشهد الاعتراضات الاخيرة والرافض لاي نوع من الوصاية الاجتماعية والسياسية والفكرية، التي تحملها وتمارسها ومارستها الاجيال الاولى لاي جهة انتمت، وطبيعة الافكار والخطاب السياسي والعقائدي الذي تحمله، في مقابل اقلية تمثل القاعدة الشعبية والفكرية والثقافية لمنظومة السلطة وافكارها العقائدية والايديولوجية. 

استمرار المنظومة الحاكمة ومؤسساتها الفكرية والامنية بالتعامل مع الحركات الاعتراضية والاحتجاجية من زاوية التبعية يعني ان هذه المنظومة مازالت تعيش في حالة الانكار للاثار السلبية للسياسات التي اتبعتها في العقدين الاخيرين

استمرار المنظومة الحاكمة ومؤسساتها الفكرية والامنية بالتعامل مع الحركات الاعتراضية والاحتجاجية من زاوية التبعية، لجهات تستهدف النظام وتعمل للانقلاب والقضاء عليه، اي باعتماد التهمة المسبقة بالعمالة والتآمر، يعني ان هذه المنظومة مازالت تعيش في حالة الانكار للاثار السلبية، للسياسات التي اتبعتها في العقدين الاخيرين، والتي جعلت منها اللاعب الوحيد على الساحة السياسية والاجتماعية، وانها تسعى لمعالجات ترقيعية، والامتناع عن الذهاب الى معالجات جذرية، تساعد على اعادة ترميم الاجتماع السياسي والفكري والاجتماعي، وتفتح الطريق لاحياء مبدأ تكافؤ الفرص والحريات الشخصية والتعبير والرأي والتعددية السياسية. 

السابق
بالفيديو: إطلاق نار كثيف.. إعتداءٌ ثالث على الجديد!
التالي
خبراء لـ«جنوبية»: «بهلوانيات» سوق العملة تُمهد لإلغاء المنصات وتوحيد سعر الدولار