كتاب مذكرات جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب في البيت الأبيض: ذئاب سياسية تنهش بعضها بين جدران مغلقة

هل تذكرون جاريد كوشنر؟ لابد أن النسيان أصاب الجزء الكبير من الشهرة التي رافقت بروز هذا الإسم في عهد عمه ( والد زوجته إيفانكا )الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. في آب المنصرم (2022) صدر كتاب مذكرات كوشنر (الطبعة الإلكترونية- HarperCollins Publishers. FIRST EDITION )عن الفترة التي أمضاها كمستشار رئيسي في البيت الأبيض أمسك بملفات تتجاوز استثمار ديانته اليهودية وعائلته الثرية ذات العلاقة العميقة جدا والمؤيدة بلا نقد أو أسئلة لإسرائيل و تتخطى الاهتمام المتصل بمنطقة الشرق الأوسط والعالم العربي إلى ملفات دولية هامة جدا لكل الولايات المتحدة الأميركية مثل العلاقة (التجارية التكنولوجية والتنافسية)مع الصين واتفاقيات تنظم االعلاقات التجارية والاستثمارية مع الجارتين كندا والمكسيك. بل حتى ملفات تتناول أوضاع السجون الأميركية.
جاريد كوشنر شاب يهودي مؤمن وممارِس هذه هي السمة الشخصية التي تتجلّى بلا مواربة منه في كل الكتاب وتنتقل إلى صلب نظرته لإسرائيل والصراع الفلسطيني معها. لكن مهلاً لسنا هنا أمام صهيوني متعصّب من النوع الذي لا يستحق الاهتمام بانتمائه بل هو كحالة فكرية وسياسية جدير بالدرس ومحاولة الفهم لهذه النماذج التي تعج بها اليهودية الأميركية والعالمية.

اقرأ أيضاً: تغيير قواعد الاشتباك: أبعاد الإنزال الجوي الأمريكي في شرق الفرات ورسائله

السمة الثانية حسب تعريفه بنفسه أنه ابن ملياردير نيويوركي سيصطدم في سن مراهقته بحكم بسجن والده لمدة سنتين إثر قضية احتيال في وثائق مالية في دعوى رفعها عليه بعض شركائه. وسينقل بصراحة كيف روى له والده وهو يدخل سجن مونتغومري الفدرالي في ولاية ألاباما أن أحد الحراس همس في إذنه أنهم هنا في هذا السجن يحبون تدمير الميليارديرية (أو المعنى المبتذل لكلمة Fuck) وحرفيا قال الحارس لوالده وهو يُدخله إلى زنزانته: “Welcome. They love to fuck billionaires in here.”
نفهم من هذه الرواية وغيرها عن آخرين سمة مهمة أخرى لرونالد ترامب كرجل أعمال وهو أن بيئته هي بيئة أغنياء اعتاد العديدون منهم على دخول السجون في دولة القانون الأميركية. ونفهم أكثر أن محيط هذا الرئيس الأميركي الاستثنائي (بالمعنى السلبي) هو بيئة تعج بأغنياء كبار بعضهم سَفَلَة.

السمة الأهم لهذ الكتاب كشهادة على مرحلة هي حجم الصراعات التي كانت تعتمل بين الشخصيات وفرق العمل المحيطة بترامب في البيت الأبيض. بعد قراءتي لهذ الكتاب أظن أنه تجاوز في الأهمية كتابَيْ الصحافي الأميركي الشهير بوب وودوورد عن ” البيت الأبيض في عهد ترامب” و”خوف”وحتى كتاب جون بولتون الذي انشق عن ترامب ( أو طرده ترامب)بعدما عيّنه مستشاراً للأمن القومي. وهذا طبيعي حين تصدر الشهادة عن شخص كجاريد كوشنر هو بهذا القرب من سيد البيت الأبيض.
فعلاً كان هناك مناخ صراعات بل اضطرابات وحتى تفتّت حول ترامب ربما لا سابقة له على الأرجح في تاريخ الرؤساء الأميركيين. معاونون للرئيس على أعلى المستويات يتبادلون التهديدات الشخصية بحق بعضهم البعض (ومن ضمنهم كوشنر).

سأنقل “نموذجاً” من الصفحة 82 :
يروي كوشنر كيف أخذه غاري كوهن ذات يوم جانبا وهو كبير المستشارين الاقتصاديين لدى ترامب ورئيس المجلس الاقتصادي في البيت الأبيض ورئيس مؤسسة غولدمان ساكس السابق وقال له: ستيف بانون ( المستشار المهم في فريق ترامب والذي لعب دورا شهيرا في استراتيجية ترامب الإعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي خلال الحملة الانتخابية) لا يتوقّف عن الكلام عني والإساءة لي لكني أعرف كيف أقاتل بقذارة ضد القذارة. وعندما أبلغ كوشنر بانون بضرورة وقف حملته على كوهن لكي يمكن بناء فريق عمل متماسك أجابه بانون: غاري كوهن هو الذي يسيئ وأنت يا جاريد الذي يقلِّل من قيمة أجندة الرئيس. وأضاف لا تلعب معي يا جاريد. إذا مشيت ضدي سأقطعك نصفين”.
كثيرة جدا هي المعلومات التي ينقلها ولو كان بعضها لا يتجاوز تحسين صورة الرئيس ترامب الذي يبدو في الكتاب “أعقل”و”أوزن”من الصورة التي عرفناها عنه خصوصا في الموازنة بين الاتجاهات التي تحيط به.

لا شك أن العلاقات مع الخليج والمسائل المتعلقة بإسرائيل تحتل موقعا كميا ونوعيا في الكتاب. سيتهم كوشنر وزير الخارجية ريكس تيلليرسون بأنه وهو المتمرس في العلاقات مع العالم العربي من خلال كونه ترأس سابقاً تجمّع “إكسون موبايل” التجمع الأميركي العملاق لإنتاج النفط، يتهمه بمعارضة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، الاعتراف بالقدس عاصمة دائمة لإسرائيل، كذلك بمعارضة الاندفاع الكامل لتحسين العلاقات مع السعودية، وهي سلسلة من المعارضات أدت لتهميش تيلليرسون ثم طرده الشهير والمهين بتغريدة من ترامب بعدما وصلت الأمور حد وصف تيلليرسون لترامب في اجتماع في البنتاغون بأنه غبي (moron- ص 167)

وفي سياق عرض هذه الوقائع يلاحظ كوشنر أن أي وزير خارجية عندما يظهر أمام نظرائه في الدول الأخرى بأنه لا يحظى بثقة رئيس الدولة يفقد معنى دوره وتأثيره بل يصبح بلا نفع (ص88)و هذا ما حصل مع تيللرسون حتى إقالته. سيقول غاري كوهن لرونالد ترامب أنه على الطاولة التي سيجلس حولها في الخليج “ستكون أنتَ الأفقر في الثروة” (ص99) وسيستعرض كوشنر مجموعة من أسماء الأمراء الشباب في السعودية ودول الخليج على أنهم “قادة المستقبل”.
رأيه في القادة الفلسطينيين وخصوصا الرئيس محمود عباس أنهم “فاسدون” وبدّدوا عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات بدل صرفها على شعبهم. حتى أن رأيه المبني مع الأسف على سياق من الفساد الذي يجعل غالبية من الفلسطينيين لا ترغب على الأقل أن تعيش في دولة فلسطينية مستقلة تُمثِّل الحلم المقدّس للنضال الوطني الفلسطيني.

عندما عرضت إدارة ترامب مشروع إنفاق خمسين مليار دولار على تنمية مناطق الاحتلال مقابل قبول الفلسطينيين والعرب بتقسيم الضفة وفق خارطة مستوطنات تناسب إسرائيل، ربما نكون قد انتقلنا من حيث ندري أو لا ندري من حل الدولتين إلى حل الدولة الواحدة إلى الحل الإقتصادي الصرف للمسألة الفلسطينية. صحيح أن كل حل عُرِض على الفلسطينيين ويستلهم الحكم الذاتي أو الدولة المستقلة منذ اتفاق أوسلو كان فيه بُعْد اقتصادي كثيف وأساسي، غير أن مشروع ترامب هو الأكثف في العرض الاقتصادي بما هو محاولة للانتقال إلى الحل الاقتصادي الذي هو مزيج متراجع من حل الحكم الذاتي والدولة الواحدة معا. سياسيا! سيصبح توسيع مجال وصول المسلمين إلى المسجد الأقصى هو القضية السياسية التي “تعادل” كون القدس الشرقية هي عاصمة الفلسطينيين.(ص129)

فكوشنر ينسب إلى مركز فلسطيني للإحصاءات أن “أكثر من نصف الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية وغزة يرغبون في أن يكونوا مواطنين إسرائيليين أكثر مما يريدون العيش تحت نظام فلسطيني ظهر أنه ليس قادرا على رعايتهم”.(ص 119). وهذا رأي هو من الآراء الأكثر قسوة التي يمكن أن يقرأها قارئ عربي تصدر عن مسؤول أميركي، والأكثر إيلامًا أنه ينطوي على قدر كبير من الصحة لأنه حين بعد تجربة جيلين أو ثلاثة أجيال من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تصل قضية الشعب الفلسطيني إلى هذا المستوى من الاختزال الاقتصادي. ولربما يكون القرن الحادي والعشرون هو قرن اختزال القضايا الكبرى بما فيها مسائل الهوية والأرض والثقافة وحتى الدين!؟

من التعليقات الطريفة والهامة أن الرجل القوي في أبو ظبي محمد بن زايد (MBZ) الذي لم يكن قد أصبح بعد رئيس دولة اتحاد الإمارات العربية قال لكوشنر أن الولايات المتحدة ترسل لتمثيلها عادة ثلاثة أنواع من الديبلوماسيين ، نوع يغفو خلال الاجتماعات، الثاني الذي يقرأ في اقتراحات مكتوبة دون قدرة على النقاش، الثالث الذي يسعى إلى إقناع مفاوضيه بأشياء ليست في مصلحتهم!(ص128).
في الصفحة 250 ينقل عن الحاخام الفرنسي بينتو وهو من أصل مغربي أنه يصلّي دائما لملك المغرب محمد السادس لأن جده الملك محمد الخامس عندما طالبه النازيون بتسليم يهود بلاده لهم أجابهم بتحدٍ: ليس هناك مواطن يهودي ولا مواطن مسلم في المغرب، إنهم جميعاً مغاربة.(ص250).

يعترف كوشنر أنه وهو في ذروة نفوذه في عهد ترامب عاش لحظات كان يخشى فيها اعتقاله.
سيخبرنا في بداية الكتاب خلال عرضه الحملة الانتخابية الأولى لترامب (ضد هيلاري كلينتون) كيف قضى تصريح لترامب عن إقامة الجدار العازل مع المكسيك لمنع تدفق المهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين على المستقبل السياسي لمسؤول مكسيكي كبير. و سيسرد كوشنر لاحقا وبنفَس من الشعور بالمهانة تفاصيل اضطرار ترامب الرئيس إلى التراجع بعدما أثارت الصحافة الأميركية وقائع فصل المهاجرين غير الشرعيين عن أطفالهم ووضع آلاف الأطفال في مجمع خاص وهي القضية التي تحوّلت إلى فضيحة على المستوى الأميركي. كوشنر يدّعي أن عمه الرئيس لم يكن على علم بالفضيحة إلا متأخِّراً.
من الفصول الأكثر إفادة تلك المتعلقة بالعلاقات التجارية مع المكسيك وكندا وإذْ يروي كيف استعمل فريق ترامب التهديد والترهيب مع البلدين لإرغامهماعلى تعديل الاتفاقية المتعلقة بهذه العلاقات (والشهيرة سابقاً باسم نافتا) يروي كيف اتصل هو بأحد المفاوضين الكنديين ليقول له : أرجوك أن تخبر رئيس الوزراء (ترودو) أن مفاوضيه هم على وشك نسف 600 مليار دولار هم مجموع العلاقة التجارية السنوية بين الولايات المتحدة وكندا. كان الضغط العنيف يتناول الأصدقاء و الأخصام.

ففي عهد ترامب بلغ العجز التجاري السنوي مع الصين 400 ملياردولار لصالح الصين. فيما كان عام 2001 قد بلغ 83 مليار دولار واتجه صعودا منذ ذلك الحين. مسألة التعريفات انقسم حولها الاقتصاديون الأميركيون الكبار ففيه في نظر مدرسة ترامب الحمائية علامة على استغلال الصين الفادح لحرية التجارة، أما المدرسة الأخرى فهي تعتبر البضائع الصينية المنخفضة التعريفات وبالتالي الأسعار جزءا من رفاهية الطبقة الوسطى الأميركية. هذا الاختلاف كشفه كتاب بوب وودوورد الأول عن عهد ترامب لكن كوشنر يتبنى تماما موقف ترامب ويعتبره “حارس” المزارعين الأميركيين (ص264).

في مقدمة و59 فصلاً معظمها قصير و516 صفحة يروي جاريد كوشنر تجربة أربع سنوات مليئة بالأحداث لكن السؤال الذي يظل يراود القارئ وهو ينتقل من فصل إلى فصل كيف كان سيتاح لشاب لا يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره أن يحتل هذا الموقع في أرفع قيادة عالمية هي البيت الأبيض الأميركي في موقع مستشار رئيسي ثابت في عدد من الملفات الكبرى؟ هي الصدفة طبعاً (المصاهرة)والكفاءة التي ليست ميزته وحده في بلد كالولايات المتحدة والانتماء بالولادة إلى طبقة كبار الأغنياء الأميركيين. غير أن العنصر الآخر المهم الذي يبرز في الكتاب هو كيف يحْضُر سيفُ القانون كهاجس ومعيار معاش تقريباً في كل التجارب التي عاشها وكاد يدخل السجن في أحد ملفاتها (العلاقة مع روسيا ) بعدما دخل والده في ملف مختلف (شخصي مالي) كما سبق الذكر في البداية.

لا ضمان للديموقراطية من دون حكم القانون مهما بلغ النفوذ وامتدت السطوة. ربما وَضَع جاريد كوشنر هذا الكتاب الهام والممتع لأسباب تتعلق بتحسين فرص عمه دونالد ترامب في الحملة الرئاسية المقبلة ولكنه ربما لم يقصد إلى هذا الحد تقديم تجربة تعلي شأن دولة القانون التي ينبغي أن نستشعرها عميقا نحن المواطنين البؤساء في دول اللاقانون.
عهد دونالد ترامب انقضى بما يستحقه من احتقارٍ، رجلٌ شعبوي ومحدود الثقافة ، لكن أي فرصة جادة لاسترجاع البحث في ومعرفة وفهم ذلك العهد يجب أن لا تُفوّت، وهو العهد الذي يجب الاعتراف أنه دفع أو ساهم في تغيير صورة الشرق الأوسط الجديد التي سيلتحق بها لبنان في مفاجأة كبرى سيكون لها تأثير مستقبلي عميق جدا في المنطقة هي اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل وبموافقة حتمية من إيران.

السابق
ماريجوانا وزيت حشيش بحوزة الوزير فياض؟!
التالي
بعدسة جنوبية.. هكذا بدا قصر بعبدا في اليوم الاول من الفراغ الرئاسي