وجيه قانصو يكتب لـ «جنوبية»: عُرف سياسي بديل عن الدستور

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.



 كانت جلسة مجلس النواب الأخيرة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، مزيج من مزاودات متبادلة ومناسبة لرفع الشعارات، وحفلَ خُطبٍ تلقى في تظاهرات شعبية، فضلاً عن تحويلها إلى ساحة تذاكي ومناورات ونصب ألغام وأفخاخ وممارسة كيديات مبطنة، وفرصة ثمينة لحرق أسماء مرشحة وقطع الطريق على شخصيات محتملة الفوز.   ‏ ‏كانت الجلسة حدثاً سياسياً شعبوياً بامتياز، مورست فيها كل تقنيات واستراتيجيات الميليشيات، التي تهوى حرب الشوارع وتحنُّ إلى متاريس الأزقة، لكن هذه المرّة استعاضت عن الاشتباك الجسدي بعبوات الكلام الجارح، وتكتيكات الكتل النيابية في الاقتحام والاستدراج والمحاصرة.

كان في الجلسة كل شيء ما عدا أن تكون جلسة مجلس نواب أي جلسة بمستوى ممثلي أمة أو وطن أو مواطنين لممارسة مهام تشريعية أو انتخاب رئيس لتفادي الفراغ الرئاسي والدستوري المقبلين أو مسعى جدّي لاستنقاذ وطن لامس درك الإنهيار الأسفل أو يكاد


 كان في الجلسة كل شيء ما عدا أن تكون جلسة مجلس نواب، أي جلسة بمستوى ممثلي أمة أو وطن أو مواطنين لممارسة مهام تشريعية، أو انتخاب رئيس لتفادي الفراغ الرئاسي والدستوري المقبلين، أو مسعى جدّي لاستنقاذ وطن لامس درك الإنهيار الأسفل أو يكاد. فمساحة التقدير الشخصي في تحديد مواعيد انعقاد الجلسات ووضع برامجها باتت واسعة، والاستنسابية في تفسير النصوص عاليّة السقف، والمخالفات الصريحة لقواعد الانتظام المنصوص عليها باتت مباشرة ومن دون أية دواعي لتورية أو تقيّة أو تأويلات دستورية. 

عرفٌ بدأت ملامحه المباشرة والصريحة مع اتفاق الدوحة، الذي لم تكن مهمته إنهاء حالة الانسداد السياسي بل جوهره استثمار سياسي يعكس تغير موازين القوى لصالح حزب الله كقوة مركزية ولصالح القوى التابعة المنخرطة في محور الممانعة


هي جميعها مؤشرات ودلائل على وجود عرف سياسي راسخ، بات بمثابة دستور عرفي بديل من النص الدستوري المعتمد. عرفٌ بدأت ملامحه المباشرة والصريحة مع اتفاق الدوحة، الذي لم تكن مهمته إنهاء حالة الانسداد السياسي، بل جوهره استثمار سياسي يعكس تغير موازين القوى لصالح حزب الله كقوة مركزية، ولصالح القوى التابعة المنخرطة في محور الممانعة. تغيّر لم يلحظه اتفاق الطائف لأنه لم يكن موجوداً حينها، وأخذ يترجم نفسه جملة قواعد ومبادئ ممارسة ملزمة لكل عملية صناعة قرار أو تشريع، كان أهمها “ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة”، التي لا تنقض كل صيغة دستورية فحسب، بل تنقض مفهوم الدولة بمعناها المعاصر، وتخلخل مقتضيات العقد الاجتماعي الجامع بين اللبنانيين.

الدستور لحظ ضرورة انتخاب رئيس عند دخول زمن استحقاقه للحؤول دون الفراغ ولضمان استمرارية مؤسسات الدولة والانتقال الهادىء للسلطة ولم يلحظ شرطاً أو قيداً آخر


محطة العرف البديل الثانية، كانت انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية، تحت شعار إما انتخاب ما سمي بــ “الرئيس القوي”، الذي وصف بالأكثر تمثيلا للطائفة المارونية والمكوّن المسيحي، أو لا انتخاب مطلقاً. وهي بدعة أدّت لا إلى تعطل الدستور الحالي وشله فحسب، بل طرحت نفسها في معناها ومفهومها بديلاً مناقضاً للنص الدستوري.  فالدستور لحظ ضرورة انتخاب رئيس عند دخول زمن استحقاقه، للحؤول دون الفراغ ولضمان استمرارية مؤسسات الدولة والانتقال الهادىء للسلطة، ولم يلحظ شرطاً أو قيداً آخر، وحين يتم إضافة قواعد وشروط وتأويلات من خارج النص، عندها تتم إقالة وتحييد الدستور، ليفقد معها مرجعيته وإلزاميته وحتى شرعيته، ويتم معها الاحتكام إلى قواعد وأصول من خارجه، يحددها الاقوى وصاحب اليد العليا.

الدستور هو الصورة القارة والثابتة للانتظام السياسي العام والعرف هو التغيرات المجتمعية والثقافية والتحولات في الوعي بقواعد الشرعية ما يجعل العلاقة بين الدستور والعرف علاقة جدلية وتكاملية بين الثابت والمتحوّل


لست هنا لأضع مفهوم العرف على النقيض من الدستور، أو لأقلل من قيمة العرف في مجرى الحياة السياسية. فالدستور هو الصورة القارة والثابتة للانتظام السياسي العام، والعرف هو التغيرات المجتمعية والثقافية، والتحولات في الوعي بقواعد الشرعية، ما يجعل العلاقة بين الدستور والعرف علاقة جدلية وتكاملية بين الثابت والمتحوّل. فلا يبقى الدستور وبنوده على صيغة أو هيئة واحدة  إنما يقبل التعديل كلما صعَّد المجتمع من ضغوطه، وراكم العرف من متغيراته، ليجسد الدستور في كل مرحلة تاريخية حقيقة المجتمع ووضعيته التاريخية. ولا يعود العرف حراكاً مجتمعياً في الفراغ ومنفصلاً عن مجريات الشأن العام، بل عنصر تشكيل وإعادة إنتاج للنظام السياسي. بالتالي لا نعود أمام ثنائية متعارضة بين الدستور والعرف، بل أمام دينامية حيوية واحدة تختزن في داخلها جدل الثابت والمتحول وتفاعل الإيجاب والسلب،  يصبح معها الدستور الجديد الذي يعقب الدستور القديم مرآة للعرف المتشكل والمتجدّد،  ويكون العرف نفسه قد استحال نصاً دستورياً جديداً. 

حين انتصرت الورقة البيضاء في جلسة انتخاب الرئاسة ولم يراعِ الأكثر وربما الجميع جدّية المرحلة الراهنة واستخفوا بخطورة الفراغ وتداعياته كان هذا إقالة للدستور من مرجعيته واحتكام لعرف عبثي خارجه

يدخل الانتظام السياسي في مرحلة الخطر والانهيار، مثلما هو حال لبنان الآن، حين يتحول العرف إلى مجرد قواعد مبطنة وغير معلنة لتقسيم السلطة والموارد بين القوى المتنفذة، ما يجعله عرفاً منفصلاً عن تحولات المجتمع ومطالبه وتطلعاته، وفي الوقت نفسه يصبح دستوراً ضمنياً رديفاً ومنافساً للحياة العامة كبديل عن الدستور المعتمد، أي دستوراً عرفياً مُعطِّلاً لكل بنود الدستور القائم وإلغاء لكل نصوصه. بالتالي نكون أمام شكل دولة وهياكل مؤسساتية فارغة من المحتوى والمضمون، فلا تعود مجريات السياسة محكومة لقواعد مشروعية منصوص ومجمع عليها، بل تصبح حلبة لصراع الاقوى، التي تشرعن كل وسيلة ضغط أو تعبئة أو استقطاب، أو حتى مواجهة من دون سقف أو قيد أو ضابطة. 
حين انتصرت الورقة البيضاء في جلسة انتخاب الرئاسة، ولم يراعِ الأكثر وربما الجميع جدّية المرحلة الراهنة واستخفوا بخطورة الفراغ وتداعياته، كان هذا إقالة للدستور من مرجعيته، واحتكام لعرف عبثي خارجه. هو سلوك لا يدل على تخلّي النائب عن مهمته كممثل للأمة اللبنانية فحسب، بل تقمصه شخصية المشعوذ الذي يجيد إظهار الاشياء على غير حقيقتها.

إقرأ أيضاً : وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: المرأة الإيرانية..«حريتي أغلى من حجابي»

السابق
قرار بـ «فصل معلمة».. انتقاماً!
التالي
الريحاني: لانتخاب رئيس قبل 31 تشرين تجنّباً للفراغ