عبد الرحيم أبو حسين وسنديانة التاريخ اللبناني

عبد الرحيم ابو حسين

في شباط عام 2000 التقيت عبد الرحيم أبو حسين على مدخل مبنى “الكوليج هول” لأستأذنه للتسجيل في صفّه الخاصّ بتاريخ لبنان العثماني. حينها لم أكن أعرف بأنّ قراري هذا سيكون الخطوة الأولى في رحلة استمرّت اثنين وعشرين عاماً، لتتحول إلى علاقة أبويّة وفكريّة وصداقة مع أحد ألمع المؤرّخين العرب، معلّم قدّم للمدرسة التاريخية اللبنانية ما لم يقدّمه أحد من اللبنانيين في إطار مشروع نقديّ للسرديّات المؤسِّسة للكيان اللبناني، عبر الغوص في الوثائق غير المستعملة من الأرشيف العثماني عن الولايات العربية، وعلاقة المركز، أي الأستانة بالأطراف، من الإمارة المعنيّة إلى متصرفيّة جبل لبنان. 

اقرأ أيضاً: محمد عبد الله العائد إلى بيروت شاعراً متفرداً إبداعاً وحياة

خلال مسيرتي المهنيّة ونشاطي السياسيّ وُصمت بعدّة تسميات – منها السيّئ ومنها المحبّب – كان أعزّها على قلبي اللقب الذي خلعه عليّ معلّمي كمال صليبي، الذي كان يُطلق لقب “حفيده” (الفكريّ)، لكوني درست التاريخ على يد ابنه الروحي عبد الرحيم أبو حسين، الذي حمل إرث الصليبي وحفظه حفظ الأم لطفلها، ليس فقط من خلال البحث العلمي والتاريخي فحسب بل من خلال التواضع والمحبّة التي أحاطنا بها المعلم عبد الرحيم أبو حسين، فاتحاً قلبه ومكتبه ومنزله – كما فعل الصليبي قبله – لمئات الطلاب الذين أصبحوا أعضاء في “عشيرته” وعائلته الفكرية والإنسانية. 

عندما وصل عبد الرحيم أبو حسين، الفلسطيني، عام 1971 إلى حرم الجامعة الأميركية وهو ابن عشرين عاماً آنذاك، وجد نفسه في خضم عاصفة من العمل السياسيّ الطلابي. وبالرغم من تعلّقه بوطنه الأم فلسطين وقضيّة شعبه، لم ينجرَّ أبو حسين إلى المعترك السياسي المنظّم بل فضّل النضال على طريقته.

أثناء الاجتياح الإسرائيلي لمدينة بيروت في صيف سنة 1982، وأمام الزحف السريع والمدمّر لجيش الاحتلال، دخل أبو حسين في حالة من الاكتئاب متناسياً “رسالة الدكتوراه” التي كان يعدّها تحت إشراف الصليبي، فما كان من الأخير إلا أن وبّخه توبيخ الأب، ووضعه أمام خيارين، إمّا حمل السّلاح والقتال، أو الانكباب على العمل وإنهاء “رسالة الدكتوراه”، وهي نصيحة أخذ بها عبد الرحيم ليُنهي عمله ويدخل في ملاك التعليم في الجامعة حتى وفاته في 23 حزيران 2022.

مساهمات عبد الرحيم أبو حسين في حقل التاريخ عديدة ومعروفة في أوساط أصحاب الاختصاص ومعظم المهتمّين بقراءة التاريخ، لكن يبقى عدد كبير من الناس غائبين عن الدور الريادي لمؤرّخ طوّع اللغة بشكل ساحر، ونقّب الأرشيف في البحث عن حقائق جديدة لتعرية الأساطير المؤسِّسة للكيان اللبناني بنسخته المارونيّة والدرزيّة. 

كتابة التاريخ بالنسبة لأبو حسين – كما للصليبي – ليست نشاطاً سياسياً عقائدياً أو سلاحاً يستعمل ضمن الاقتتال المذهبي الدموي، بل هو التزام ومحاولة مستمرة لتفكيك الهويات القاتلة واستعمال التعددية كجسر انتقال لبناء الدولة الحديثة. 

أبو حسين الفلسطيني اللبناني استطاع إنقاذ اللبنانيين والدروز والموارنة بالتحديد من أنفسهم، بعدما دخلوا في لعبة عبثية وسخيفة، جعلت من كتابة تاريخهم هجاءً لبعضهم البعض، في حين قام أبو حسين بمحاولة تقويم التاريخ اللبناني الحديث، عبر تدمير السرديات المؤسِّسة لكلّ من الدروز والموارنة، وتذكيرهم بأن مستقبلهم مرهون بقدرتهم على نضوجهم التاريخيّ، وبأن بناء الأمم يحتاج إلى وعي تاريخيّ وليس إلى عقيدة سياسية فقط. 

عبد الرحيم أبو حسين، ليس بمؤرّخ عظيم فحسب، بل إنسان “آدمي” طيّب وكريم يُمثّل الصورة الحقيقيّة لرأس بيروت بجامعتها وناسها وثقافتها ومساهمتها بالإرث الإنساني العابر للطوائف والقوميات والحدود. 

غادرنا المعلم عبد الرحيم أبو حسين بالجسد، ولكنه خرج لينضم إلى أبيه الطائر الحكيم كمال الصليبي، وليجثو بقربه على سنديانة المعرفة التي روياها بمحبّتهما ومعرفتهما لنستطيع أن نجلس في ظلالها، ونشرب نخبهما، ونتذكّر قصصهما والتزامهما بالحقيقة.

السابق
هوكشتاين قال كلمة إسرائيل ومشى!
التالي
إلى موظفي القطاع العام.. موضوع الرواتب حُسِم!