بوتين.. وعقدة بطرس الأكبر

مصطفى فحص

في ذروة الفشل الاستراتيجي بالسيطرة على أوكرانيا، ومحاولات التعويض تكتيكيا السيطرة على شرقها وجنوبها، وفي لحظة حرجة داخليا وخارجيا، يلجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الاستعانة بقيصر روسيا العظيم بطرس الأكبر من أجل إعطاء مبررات تاريخية لغزوته الأوكرانية، ومنحها غطاء جيوسياسيا يعطيه مشروعية في معركة استعادة الفضاء السوفياتي أو إخضاعه، فمنذ أن تجاوزت دباباته الحدود الأوكرانية باتجاه العاصمة كييف أعلن بوتين صراحة أنه قرر تجاوز التاريخ والجغرافيا، وأن هدفه إلغاء بلد مؤسس لتاريخ بلاده الإثني الديني والحضاري من الخارطة العالمية.

إصرار فلاديمير بوتين على الربط بين غزوته الأوكرانية وحرب الشمال التي خاضها بطرس الأكبر بداية القرن الثامن عشر رسالة واضحة المعاني للأوروبيين بأنه على خطى بطرس الأكبر في السعي إلى استعادة أراضي بلاده الأصلية، وهذا مؤشر على ان الحرب الأوكرانية قد تستمر لسنوات، كما استمرت حروب بطرس الأكبر 21 عاما، إلى ان تمكن من إحتلال أجزاء كبيرة من مملكة السويد، وضم الساحل الشرقي لبحر البلطيق، وانتهت بتقليص دور السويد السياسي والعسكري في شمال القارة الأوروبية.

في آخر لقاء له يقول الرئيس الروسي “زرنا للتو معرضا مخصصا للذكرى الـ350 لميلاد بطرس الأكبر، إنه أمر مدهش، وكأن شيئا لم يتغير، فبطرس الأكبر خاض حرب الشمال على مدى 21 عاما، ويسود انطباع بأنه من خلال الحرب ضد السويد استولى على شيء ما، إنه لم يستول على شيء بل استعاده”. مما يعني ان بوتين في الأيام الأولى للغزو كان جادا في قرار إلغاء كيان الدولة الأوكرانية واستعادة مدينة كييف إلى “موطنها الأصلي”.

ورغم هزيمته المبكرة على أبواب كييف إلا أنه لم يزل مسكونا بعقدة التاريخ، ويحاول إنكار خصوصيتها الجغرافية كعاصمة لدولة “كيفسكي روس”، فالواضح في كلام بوتين الأخير انه لا يعير اهتماما للموقف الأوروبي ومقاربته الأوكرانية، والدليل على ذلك تطرقه إلى مدينة بطرسبورغ عاصمة بطرس الأكبر، وهي إشارة بأن الغرب الذي يرفض الاعتراف بأن كييف أراض روسية هو نفسه الذي رفض الاعتراف بأن الأراضي التي بنيت عليها عاصمة القيصر سنة 1712 أراض روسية.

بالنسبة للمؤرخين الأوروبيين، وحتى الروس، لا يمكن المقارنة ما بين تجربة بطرس الأكبر الأوروبية وحتى حروبه غربا وبين تجربة فلاديمير بوتين في السنوات العشرة الأخيرة، تاريخيا كانت رحلة بطرس الأكبر إلى بعض المدن الأوروبية رحلة معرفية بهدف نقل التجربة الثقافية والصناعية إلى بلاده، حيث ساعدت رحلته الأوروبية في عملية إصلاح إمبراطورية غيرت مجرى التاريخ شرقا وغربا، فبينما تنكر بطرس في هولندا وبريطانيا تحت اسم (الرقيب بيوتر ميخائيلوف) الذي اهتم في صناعة السفن وزار المصانع والمدارس، كان الكولونيل في المخابرات السوفياتية فلاديمير بوتين يعمل في برلين متخفيا من أجل جمع المعلومات عمن يعتبرهم أعداء بلاده.

وعندما أصبح حاكما أعلن معاداته كل ما يعتبره قيما غربية ونسج علاقات مع أغلب الأحزاب اليمينية المعادية للقيم الليبرالية والحريات، وذلك بهدف منع نقل التجربة الغربية إلى بلاده، ولعل أدق توصيف له هو ما كتبته صحيفة لوفيغارو الفرنسية، عندما زار باريس عام 2017، وشارك في افتتاح معرض في قصر فرساي يؤرخ لزيارة بطرس الأكبر إلى فرنسا سنة 1717 حيث كتبت في افتتاحيتها “إن بطرس الأكبر قيصر طمح إلى جعل روسيا أوروبية، فيما بوتين يسعى لأن يجعل أوروبا روسية ويقدم نفسه كبديل مناسب عن الديمقراطية الغربية التي يتهمها بالعجز والانهيار”.

تاريخيا انتهت حرب الشتاء بموطئ قدم روسي دائم على بحر البلطيق وأمنت حدود الإمبراطورية الغربية وهيأتها للالتفاف شرقا، لكن الحرب الأوكرانية دفعت روسيا إلى التراجع شرقا والاستنزاف غربا، ما يؤكد أن بوتين لن ينجح حاضرا ولا مستقبلا في توظيف بطرس الأكبر ضمن مخططاته.

السابق
اليرقان ينتشر في لبنان.. تسجيل 174 إصابة حتى الآن ودعوة هامة من «الصحة»!
التالي
هوكشتاين في بيروت.. ولقاءان مرتقبان!