وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: روسيا أسيرة حلم أمبراطوري بائد

وجيه قانصو

ثمة تفسيران متداولان حول احتلال روسيا لأوكرانيا:

أولهما، أنه بداية تغير استراتيجي في خارطة ميزان القوى العالمية، وفعل اقتحام من المعسكر الشرقي، الآخذ بالتشكل والنمو والتمدد، على تخوم المعسكر الغربي، بل يعتبر ذلك مؤشر على تقهقهر هذا المعسكر، ودليل على عجزه في الانتصار لحلفائه وحمايتهم.

هذا التفسير أقرب إلى لغة تعبئة وتحميس، خطاب يسار نافق، صخب ممانع، لسان حال المناهضين للمعسكر الليبرالي، بالأخص الأمريكي، والمتضررين من هيمنته الاقتصادية والسياسية. بل هو شعار يردَّدُ دائماً، ويتم إسقاطه على كل الأحداث، مهما كانت سياقاتها ومنطقها الداخلي. ما يجعله أقرب إلى أمنيات، إظهار لرغبات باطنية، إشباع لضغينة نفسية، يؤول الحدث على غير معناه، يُحمِّله أكثر مما يحمل، ويرغمه على الإدلاء بغير ما يقصده. أي هو خطاب يحاصر دلالات الحدث، ويسد منافذ فهمه، ليملي علينا رؤية ما يجب أن يكون عليه الحدث، لا بما هو على حقيقته وطبيعته وواقعه.

ثانيهما، أنه عمل دفاعي من طرف روسيا، لوقف تمدد المعسكر الغربي داخل مداها الحيوي، والاحتفاظ بوضعية الستاتيكو في مناطق النفوذ، التي ترسخت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. أي هو رد فعل روسي للحد من تعاظم النفوذ الغربي، وانتهاكه للأعماق الاستراتيجية لكيان روسيا الكبير.

ما نراه هو روسيا الخائفة والغاضبة معاً، تحشد كل ما تملكه من قوة عسكرية

لعل هذا التفسير، هو الأقرب في تفسير الأسباب المباشرة، للغزو الروسي لأوكرانيا. فروسيا تريد أن تحتفظ بما كان وما يزال، داخل دائرة نفوذها ومجالها الحيوي. هي تقاوم التمدد الغربي على حساب أمنها الاستراتيجي، أكثر من سعيها إلى كسر القواعد القائمة ووضع معادلة رعب مختلفة. ما نراه هو روسيا الخائفة والغاضبة معاً، تحشد كل ما تملكه من قوة عسكرية، توظف كامل قدرتها التدميرية، تهدد بالقوة النووية التي تطيح بحياة البشرية بأسرها. هو سلوك يقف على حافة الهاوية، لا يعبأ بالعواقب، بل لا يعبأ بحجم الخسارة التي يتعرض لها، ربما لأنه يرى أن تراجعه، وترك أوكرانيا تنضم إلى حلف الناتو، هي بداية النهاية لوريث المارد السوفيتي، والزوال السريع للكيان القيصري القديم.

قد يكون غرض روسيا دفاعياً، لكن الواضح أن الاندفاع الروسي بهذه الوحشية، والاستعمال المجنون للقوة التدميرية، مع عدم عناية بالتبعات الاقتصادية والسياسية والأمنية القاسية على روسيا، إضافة إلى العزلة الدولية، مع تجاهل القيادة الروسية خيارات أخرى أكثر فاعلية وأقل ضرراً، كل ذلك يدل على أن روسيا وقعت في فخ الاستدراج الغربي، الأمريكي على وجه التحديد، ويدل أيضاً على أن أدوات واستراتيجيات روسيا، في الاحتفاظ بالنفوذ السوفييتي السابق وبمجدها القيصري القديم، بات خارج الزمن، ولن يتسبب إلا بمزيد من التقهقر والضعف لروسيا. بل يكشف عن حجم تأخر روسيا في مواكبة تغيرات العالم، وفشلها في تقديم نموذج جاذب سياسي ونهضوي للدول المحيطة بها، في الإنضمام إلى مدارها ودائرة نفوذها وسلطتها.

إذا كانت روسيا لا تحتاج في احتلال أوكرانيا إلى أكثر من مئتي ألف مقاتل، فإن حاجتها للاحتفاظ باحتلالها بحسب التقديرات الدولية، تزيد على ثمانمائة ألف جندي، وهو ما لا يمكن لروسيا أن توفره. ما يعني أن ثمن الدخول سيكون باهظاً، وأن ثمن البقاء مع تنامي مقاومة أوكرانية عنيدة بعد الاحتلال، سيكون أكثر كلفة واستنزافاً. فروسيا لن تنسحب قبل جني ثمار سياسية لانسحابها، والذي أقله تغيير النظام والتحكم ببنية أوكرانيا الأمنية، وفرض سلطة موالية وتابعة لها، أي إعادة هيكلة للكيان الأوكراني بأسره. وهو غرض يكاد يكون مستحيلاً بحكم الحصار الدولي على روسيا، الذي ألغى سلفاً أية إمكانية للاعتراف الدولي بأي ترتيب جديد داخل أوكرانيا، وبحكم اشتداد وطأة الرفض الأوكراني لهذا الغزو، الذي سيترجم إلى مقاومة شرسة، تحول الوجود الروسي جحيماً على جنوده وسياسييه.

لا يبعد أن يكون التراخي الغربي الأولي في صد الغزو الروسي، بمثابة استدراج للروس إلى حرب استنزاف بالوكالة

لهذا لا يبعد أن يكون التراخي الغربي الأولي في صد الغزو الروسي، بمثابة استدراج للروس إلى حرب استنزاف بالوكالة، سيتسبب من جهة بإفلاس الخزينة الروسية وتدمير اقتصادها، نتيجة النفقات العالية والعقوبات الدولية الصارمة عليها، ويتسبب من جهة أخرى بإنهاك قوة روسيا العسكرية، بعد أن عرَّضت قواتها لتكون أهدافاً سهلة من قبل المقاومة الأوكرانية، التي سيكون خط إمدادها بالعتاد الفتاك، من المعسكر الأوروبي-الأمريكي مفتوحاً وسخياً. ما يعني أن الحرب في أوكرانيا هي شكل من أشكال المواجهة بين روسيا والمعسكر الأوروبي-الأمريكي، مع فارق أن الروس متورطون في قلب المعركة، وسيتحملون تبعات مؤلمة وربما مزلزلة للنخبة الحاكمة في روسيا نفسها، في حين أن المعسكر الأوروربي-الأمريكي يواجه الروس بطريقة غير مباشرة عبر وكيله الأوكراني، اي مواجهة وحرب بأقل كلفة بشرية ومالية ممكنة.

إنها نزعة سلفية يلجأ إليها كل ناقم على حاضر فعلي

التحدي الأخطر لروسيا، لا يكمن في دفاعها عن أمنها الاستراتيجي، لكن في عجزها عن الاحتفاظ بحلفائها القدامى، في فشلها تقديم تجربة نهضة اقتصادية، أو نموذج حكم سياسي ديمقراطي، قادر على منافسة او مضاهاة النموذج الغربي. فروسيا عادت ووقعت في براثن الاستبداد والفساد، الذي يقوضها من الداخل، وإلى تكديس القوة العسكرية، ذات البنية التقليدية، وسيلة للتغطية على ضعفها في مجال التنافس الاقتصادي، وتأخرها في حقل الابتكار التكنولوجي، وسبيلاً وحيداً للاحتفاظ بنفوذها وعلاقتها مع الدول المجاورة. ما يعني أنها تلوذ بالمنطق الأمبراطوري، أي منطق العلاقات الدولية الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر، ظنا منها أن ذلك سيوقف عجلة الزمن أو يعيد عقاربه إلى الوراء. إنها نزعة سلفية يلجأ إليها كل ناقم على حاضر فعلي، أو عاجز عن وقف تدفقات المستقبل التي تهمشه وتنحيه.

قد يكون هنالك تهوراً واندفاعاً أوكرانيا غير محسوب، في الرغبة بالانضمام إلى حلف الناتو. لكن ذلك الاندفاع أو التهور ليس سوى السبب المباشر والظاهر، لتفجير التوترات السياسية والأمنية الأخيرة. إذ إن السبب الأعمق، الذي يعبر عن السبب الحضاري أو الخيار الكياني، يكمن في موجبات الدافع الأوكراني للانضمام إلى المعسكر الغربي، والذي يتلخص في نجاح النموذج الليبرالي نسبياً (بالقياس إلى النماذج المتوفرة) في تأمين شروط النهضة الاقتصادية، وبناء مجال عام، تتوفر فيه مقومات الحرية والحقوق اللازمتين، لحيوية سياسية داخلية وشروط حياة سياسية كريمة، مقابل فشل روسيا الذريع، في تعميم نموذجها الاقتصادي الريعي وغير المنتج، وإخفاقها في إقناع الآخرين بتجربتها السياسية، التي ما تزال أسيرة أحلام أمبراطورية بائدة، وضحية قيادة ذات ذهنية مخابراتية، تعتقد أن تضخم ترسانة روسيا العسكرية والتهديد بها، هو أساس تفوقها في العالم.

السابق
«إنّه مرشّح بري».. أرسلان يُحذّر محازبيه ويُوصيهم!
التالي
تهافت وغلاء ومداهمات.. منازل الجنوبيين تتحول الى شبه «دكاكين»!