موت المثقف وتسيّد التقني

منذ نهاية القرن الماضي ومع نمو وتصلب عود تقنيات المعلوماتية والتواصل الاجتماعي بدأ ارباب ومخترعو هذه الصناعات بالظهور في الفضاء السياسي والاجتماعي المعولم. وهؤلاء أتوا بمشاريع يحملها خطاب ثقافي إيجابي تبشيري، يعلي من شأن محاسن التواصل والبحث المعرفي وبناء أواصر المجتمعات الشبكية (communities). ففي الانفتاح المكثف على المعلومات وإتاحتها كمادة تواصل شبكي بحثي وتهاتفي بصري وتفاعلي بين البشر نقلوا الافتراض من حيز الخيال العلمي إلى الواقع، أو بمعنى آخر، أسسوا واقعًا ملموسًا كان الخيال العلمي قد افتتحه قبل قرن من الزمن. ظهور شخصيات تقنية، كبيل غيتس ستيف جوبز ولاري بايج، على منابر المشهد العام العالمي بدا كأنه بمثابة تنحية لشخصية المثقف التي تسيدت صناعة الثقافة والراي العام لقرن ونيف من الزمن.

صعود المثقف كشخصية تاريخية وكمنتج اجتماعي تمخض من سياسات ثقافية رسمية وارتسم نموذجًا عامًا في المجتمعات الديمقراطية، حاملًا راية الأفكار التي نتجت عن ترددات الثورة الفرنسية في فرنسا والعالم. يمكننا القول إن ولادته كانت في كنف الجمهورية الثالثة في فرنسا (1870-1940) وهي فترة متميزة في تاريخ الثقافة حيث شرعت الدولة في بناء هوية الجمهورية من خلال الثقافة، وهدفت في مشروعها هذا إلى بناء نظام وطني للتعليم يطمح لجعل كل الأطفال الفرنسيين مواطنين ناجزي الهوية في النظام الجمهوري العلماني للدولة كما تلاحظ الباحثة جيل فوربز.

اقرأ أيضاً: الثقافة العربية الراهنة بين الذاتية والآخرية

هذا المشروع تشكلت معالمه من خلال تغييرات اقتصادية واجتماعية متشابكة، كالهجرة من الأرياف وتصلب شبكة المواصلات بين المدن وتمددها، والتأثير التكنولوجي الهائل الذي أحدثته الثورة الصناعية في تشكيل الطبقة العاملة. وقد غدت الثقافة تلك غاية السلطات التي اعتمدت سياسات حثيثة لوضع الأسس الناظمة لها. فعلى سبيل المثال نشر غوستاف لانسون موسوعته تاريخ “الأدب الفرنسي” عام 1895، وعام 1905 نشر فيرديناند برونو أول أجزاء “تاريخ اللغة الفرنسية” وفي عام 1817 تم إنشاء الهيئة العليا للفنون الجميلة، كما بدأت الدولة الفرنسية محاولات مكثفة لوضع أسس ضابطة للّسانيات المختلفة في المجتمع الفرنسي المتشكل في كنف الجمهورية الثالثة، وتم بث برامج تعليمية تستبعد اللهجات المحلية من مناهج التعليم الرسمي بوصفها تهديدًا لهوية فرنسا الجمهورية الجامعة في جهد دؤوب لبناء أمة موحدة تتكلم لغة واحدة في نظام ثقافي موحد.

وفي هذا الجو بدأت كلمة مثقف (Intellectual) بالظهور في نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا وأوروبا تباعا، كما يلاحظ المؤرخ الفرنسي كريستوف شارل. ولد المثقف كمنتج وكممثل وناشر لهذه الثقافة وككائن اجتماعي متنور أخد على عاتقه بناء رأي وحيز عام، وتَكرَّسَ نموذجًا من خلال فضيحة دريفوس في فرنسا، وكعنصر مؤثر في الفضاء العام وفي صناعة رأي عام سياسي واجتماعي حول هذه الفضيحة. وتجلت هذه الشخصية التاريخية في تطوع إميل زولا لفضح المؤامرة على دريفوس مستندًا إلى حقوق الإنسان التي كانت آنذاك إنجازًا فرنسيًا كرسته الثورة الفرنسية قبل حين. فزولا ومثقفون فرنسيون آخرون رأوا في سجن دريفوس البريء لطخة عار على جبين القيم الفرنسية التي رسخت الحرية والعدالة بمعناهما الحديث. ودافع زولا في مناسبات مختلفة عن سمعة فرنسا الجمهورية التي تحفظ حرية مواطنيها وحقوقهم، ونادى بواجب هؤلاء المواطنين والمثقفين في مقدمهم، في الاستماتة بالدفاع عن هذه القيم وحماية شرف الجمهورية وإعلاء شأن قيم التنوير، ولو تطلب الأمر الموت في سبيل ذلك. وتوجت هذه الاعتراضات بجملة منشورات بدأت بمقال زولا الشهير “إني أتهم” وظهور مانيفستو المثقفين في ما بعد.

دور المثقف هذا تكرس في القرن العشرين، وتصلب أكثر كدور رائد في صناعة الأفكار والرأي العام في العالم الديمقراطي، وشكل انخراط فلاسفة مثل سارتر وسيمون دوبوفوار ومثقفين آخرين في إصدار مانيفستو 121 عام 1960 دعما لحقوق الجزائريين في الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي إحدى علامات هذا الدور الفارقة، وهذا ما أعاد تأكيد الدور الطليعي للمثقف الذي ابتدأ في بداية القرن. وبهذا أصبح المثقف محركًا اجتماعيًا لقيم الحداثة، ما لبث أن خط مساره إلى مراكز صنع القرار السياسي والعمل الحكومي. وتمثل تتويج هذا السعي بإنشاء الجنرال ديغول وزارة الثقافة، وتكليف شؤونها للكاتب والناقد أندره مارلو عام 1959. مارلو نفسه هو الذي خط قرار إنشاء الوزارة، مؤكدا في مرسوم إنشائها، أن هدفها هو إتاحة المعرفة للفرنسيين كافة وتمكينهم من الوصول إلى الإرث الثقافي الفرنسي والعالمي ما أمكن.

مع بروز تقنية المعلومات في نهاية القرن الماضي، بدأ أرباب هذه الصناعات يتصدرون المشهد العام.  فهذه التقنيات أتاحت البحث والتواصل المرئي والمسموع والكتابة التفاعلية كوسائط تدعم القيم الكونية نفسها التي كانت الثورة الفرنسية قد أرستها من قبل. وساهم المثقف في نشرها والدفاع عنها. تيم بيرنرزلي أوجد النسخة الأولى من شبكة الإنترنت، ورافقه في هذا الظهور بيل غيتس، بتطوير مايكروسوفت أجهزة كومبيوتر فردية تستطيع البحث والاتصال عبر الشبكة. تيم بيرنرزلي وبيل غيتس كانا أول تمظهر لشخصية التقني، يحملان أفكارًا يختلط فيها الوظيفي بالخلاصي الحداثي، فالتواصل الإلكتروني بدا كنقلة كونية في حياة البشر، قفز سريع إلى المستقبل فيه إيمان احتفالي وانتصار حاسم للمخيلة على الطبيعة.

قبل هذين الاختراعين كان التواصل الإلكتروني والبحث صناعة حربية ثقيلة ومكلفة تعنى بها الجيوش المتطورة، وبرامج الفضاء التي بدأت في الخمسينات من القرن الماضي. وقد اعتلى التقني في صعوده هذا على انتصارات متتالية سجلها الوسط العلمي على الطبيعة، وتمثل في عدد من الإنجازات قد يكون أبرزها، إيجاد حل لطبقة الأوزون المثقوبة، ومن ثم سيطرة كيميائية وسريرية على مرض فقد المناعة الذي انتشر بكثافة في الثمانينات. للحظة بدا للعالم أن تلك الوثبة هي لحظة الانفتاح الكبير: إتاحة تقنية لتلقي وصناعة المعرفة بحرية في مدى سياسي وحيز اجتماعي تفاعلي، بدأ في تلاق معاكس بين ولادة الهاتف المحمول وموت التاريخ كحلبة صراع عقب دفن السرديات الكبرى ونهاية الحرب الباردة.

لم يكن قد مضى وقت طويل على هذه الإنجازات حين ظهر ستيف جوبز حاملًا أول نسخات آبل من الهواتف الذكية متعددة الوظائف، ناقلًا عصر الاستخدام من التهاتف والبحث والتصوير كخصائص منفردة إلى صناعة التجارب الرقمية باللمس. ستيف جوبز بتقديمه آيفون بدا كأنه يعطي المستخدم مجموعة سلطات قيد الأنامل، تفتح باب الخروج من موت التاريخ. إمكانيات لطالما شكلت مواضيع الخيال العلمي في الرواية والكتابة التصويرية والسينما في بدايات القرن الماضي، أما وقد تحققت هذه اليوتويبا، واقعًا افتراضيًا، فهذا مما ساهم في فتح الأبواب لمستقبل مشرق.

ثم جاء مارك زوكربيرغ حاملًا مشروع الشبكات التفاعلية المبنية على اقتصاد الإعجاب، مدعمًا بالتصفح اللانهائي الذي يقضي على بنية وسياقات الأحياز والأمكنة، متيحًا الانتقال اللحظي بين الماضي والحاضر وبين أوقات وأزمنة وأحياز خاصة وعامة. في هذا المشروع بدأ زوكربيرغ كأنه يأخذ المستخدم إلى أعلى درجات التأهب الميديائي، في أدائية عالية ترسخ هالة النجومية على منبر عام ممسرح. فالمستخدم هو صانع محتواه وشريك في محتوى غيره وناشر لهما عبر آليات تحفز استدرار الانتباه والغواية وتعزيز سلوك التلصص كثيمة رئيسية في صناعة الرأي، من خلال التفاعل المزاجي المتقلب بين الإعجاب والكره والحسد وغياب العفوية والصدف في مساحة انتظار عصابي.         

هذا التقني الذي خلف المثقف رشيق في تحولاته، وسريع في استنتاجاته، ويقف دائمًا عند حدود السؤال الفلسفي ويتخطاه مسرعًا باختزال. فالفلسفة بالنسبة له هي فن السؤال الذي لا جواب عليه، تبقي الأسئلة مفتوحة متناسلة في حيز البحث المفتوح، والإجابة على أي من الأسئلة تلك يدخل تعريفًا في مجال التقانة. الفلسفة تنمو في هذه التربة، وأي إجابة تتلبس الحل العملي هي عمل ضعيف البنية لا ينير بحث الكائن في مآلات وجوده. وفي هذا تصطدم فلسفة السؤال بإرادة التقني الساعية إلى المضي قدما في إيجاد الحلول، معللًا انتصاره، أي التقني، بأن الأسئلة الكبرى لا طائل منها، وأن الوقت ضيق ولا يسمح لنا بالدخول والإقامة الدائرية فيها. وبهذا بنى التقني أيديولوجيا الحلول من خارج التفكير الفلسفي، أيديولوجيا لا تُعرَّف كنظام بنيوي للأفكار، بل كسلطة إنجاز وطاقة تحقق متدفقة.

وحيث إن الفكر المحرك لهذه الأيديولوجيا الإيجابية لا يتوقف عند دوائر الفلسفة الوجودية، فلا مدى منطقي أرضي يلوح في أفقه كنهاية لمسعاه إلا حدود موته الكوزمولوجي، أي انفجار المجموعة الشمسية.

ومن هذه النافذة يطل علينا أيلون ماسك وريتشارد برانسون. فهما شيدا شركات تكنولوجية في مجال صناعة السيارات الكهربائية والخدمات الميديائية والبصرية والترفيهية، ومن ثم أضافا صناعة الفضاء الخاص إلى ترسانة الأعمال التي يديرانها. ماسك وبرانسون يؤشران إلى أنن الأرض لم تعد تصلح للعيش، لقد ضاقت على الجنس البشري وعلينا إيجاد مأوى آخر لأجسادنا. وهذا الخطاب المرتحل عن الأرض يحاول جاهدا بناء جسد تكنولوجي يحمل العقل والذاكرة البشرية إلى الكوزموس. لأن جسدنا الأرضي مهدد بالانقراض عند الانفجار الكبير. هذه الخشية تجد تردداتها في خطاب مؤسسي بلوك تشاين، الذين يرون فيها تقنية بإمكانها نقل وحفظ العقل والذكاء البشري عبر الكوزموس من خلال تذكر لامركزي متواصل.

التقني يضجر من الأسئلة المستهلكة الدائرية، وبالنسبة له هذا الانفجار الآتي يمثل نهاية للفكر، أو بالأحرى وصول الفلسفة إلى فكرة انتفاء ضرورتها عند هذه النهاية. وبالتالي وصولها إلى حائط مسدود في مسار طرح الأسئلة. وفي هذا المدى الكوزمولوجي المغلق، تظهر الحروب والأزمات والتوترات الاجتماعية والسياسية كعبث خالص في لانهائية مخزون الأسئلة الفلسفية. وفي هذا تبدو له اليوتوبيات الاجتماعية والسياسية الأرضية كنوستالجيا تبحث عن ذاكرة تحملها، في الوقت الذي يبني فيه السكة التكنولوجية المناسبة لتحقيق الهدف الذي يتمثل بالهروب الكبير.

السابق
هذه الحماسة للدفاع عن شيء لا نحبّه…!
التالي
آتياً من اسرائيل.. هوكستين يصل بيروت حاملاً عرض