وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: معارضة سعودية من الضاحية الجنوبية.. ماذا تعني؟!

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

حدث إطلاق “لقاء المعارضة في الجزيرة العربية” من الضاحية الجنوبية، بغرابة شكله وهزالة مضمونه وتناقض خطابه، لا يحمل أية دلائل على أنه مشروع معارضة جدي وفعلي مطروح للتنفيذ. فالحدث حصل برعاية ومباركة من “حزب الله”، أي بإيحاء النظام الإيراني، ليأتي متناغماً ومسانداً لإيقاع هذا النظام، في معاركه الإقليمية وتحدياته الدولية. هو رسالة من هذا النظام عبر “حزب الله”، أن يد إيران نافذة ومؤثرة، ليس على حدود السعودية-اليمنية فحسب، بل في الداخل السعودي والخليجي بأسره.

اقرا ايضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: حين يصبح العراف شخصية عمومية!


فالنظام الإيراني، ما يزال يرى نفسه عبر عقيدة ولاية الفقيه، أو يريد ويسعى جاهداً أن يكون كذلك، مرجعية للمكونات الشيعية المتواجدة والمنتشرة في العالم، بالأخص في العالم العربي. فولاية الفقيه، بمنطلقاتها الفقهية، وصياغاتها الأيديولوجية، تُنَصِّب رأس النظام الإيراني، الذي هو الولي الفقيه، محور الولاء السياسي، ونقطة ارتكازه لكل الشيعة في العالم، ومصدر الشرعية لأي فعل أو نشاط أو حتى نظام سياسي.

حدث إطلاق “لقاء المعارضة في الجزيرة العربية” من الضاحية بغرابة شكله وهزالة مضمونه وتناقض خطابه لا يحمل أية دلائل على أنه مشروع معارضة جدي

هو مسعى، لا ينطلق من باب تقديم النموذج السياسي الأفضل والأكفأ للحكم، ولا من باب مراعاة مصالح هذه المكونات، إنما من باب الاعتقاد الديني، الذي يصور ولاية الفقيه ليس مجرد انتماء سياسي فحسب، بل امتداداً لعقيدة الإمامة عبر الولي الفقيه، بالتالي تصوير ولاية الفقيه، مدخلاً للاستقامة الدينية والخلاص الأخروي. ما يعني أن ولاية الفقيه بالنسبة لمنظريها، ليست اختيارية أو طوعية، بل هي ملزمة دينياً، ولا يتحصل إبراء الذمة الدينية إلا بها، ولا يستقيم الولاء لآل البيت إلا عبرها. بالتالي أقامت ولاية الفقيه معارضة وتبايناً وتناقضاً مخيفاً، بين انتماء الشيعة الإمامية إلى أوطانهم، وولائهم لدولهم من جهة، وبين انتمائهم الديني وحسّهم الوجداني لآل البيت من جهة أخرى. هو مسعى لطالما جهد فقهاء النجف، في مواجهته ودحضه والتنبيه من مخاطره.

هو مسعى لا ينطلق من باب تقديم النموذج السياسي الأفضل والأكفأ للحكم إنما من باب الاعتقاد الديني


أَتفهَّم أية معارضة سياسية، بل هي ضرورية لاستقامة الحياة السياسية، وتقييد السلطة الحاكمة ومنعها من الإطلاق أو التضخم، إضافة إلى أنها من موجبات تعزيز التعدد السياسي، والتنوع الديني والمذهبي والحد من إقصاء الأقليات، أو تهميش المكونات الفرعية في أي مجتمع. هذا أمر لا يزال كامل المجال العربي مفتقداً له، وطريق الوصول إليه بعيدة وشروطه صعبة وشاقة. لذلك فإن السؤال ليس في حق المعارضة، أو حتى في حق التغيير والتجديد، فهذا كلام في البداهة.

فالمجتمعات الراكدة، التي تقفل على نفسها منافذ التغيير والتطور، هي مجتمعات ميتة ونافقة، والنظم السياسية التي لا تتلقف تحولات العالم الثقافية والسياسية، ولا تستجيب لتطلعات مجتمعاتها، هي نظم تملك فقط تأجيل مؤقت لموتها المحتم.

السؤال ليس في حق المعارضة أو حتى في حق التغيير والتجديد فهذا كلام في البداهة


الكلام يقع في سبل استراتيجية التغيير، وخطاب المعارضة وسبل أو شروط التحول والتجديد، التي تساعد أي مجتمع على توفير شروط الديمقراطية وتعزيز الحقوق فيه. أي إن الكلام لا يقع في أصل فكرة التغيير والتجديد، وإنما يقع في شروط إمكان التغيير والتجديد، أو إذا شئت في الشروط التي تجعل التغيير والتجديد ممكناً، والتحوّل إلى الديمقراطية فعلياً وليس افتراضياً.

إذا كان هنالك من دروس نتعلمها من الثورات العربية الأخيرة، هي أن التغيير السياسي ملازم للتغيير المجتمعي، وأن التغيير لا يكفي فيه تغيير الشخص أو العائلة أو الجهة، بل يتطلب تغيير أصل مبدأ الانتظام السياسي، الذي يقوم على قواعد شرعية سياسية، ومنطق علاقة بين الحاكم والمحكوم. إذ قد يتغير الشخص أو الجهة، لكن النظام يبقى، أي تبقى قواعد ومبادئ عمل السلطة، بحكم أن الوعي المجتمعي، لم تتغير في ثقافته علاقات السلطة ومفهومها ومعناها، وظلت تتحرك داخل نطاق ومدار السلطة الابوية، التي لا تنتج إلا علاقة الراعي والرعية، أو علاقة القائد المُلهم والأتباع المشدوهين، لا علاقة الدولة والمواطن.
عرفت الثورات العربية ما لا تريد، ولكنها لم تعرف ماذا تريد، ولربما عرفت ماذا تريد من قيم الديمقراطية والحقوق والحرية السياسية، ولكنها لم تكن مهيأة وجاهزة في تكوينها لتحقيق ما تريد. فكانت ثورات مشخصنة موجهة ضد فرد أو جهة، ولم تكن موجهة ضد مبدأ أو مفهوم، أو ثقافة وتقاليد راسخة، أو بنية علاقات عميقة، لأن المجتمع في تكوينه الثقافي وأطر علاقاته الداخلية، ظل داخل تكوين لا يمكنه العبور، إلى وضعيات سياسية وقواعد انتظام جديدة.

اذا كان هنالك من دروس نتعلمها من الثورات العربية هي أن التغيير لا يكفي فيه تغيير الشخص أو العائلة أو الجهةبل يتطلب تغيير أصل مبدأ الانتظام السياسي

ليس التغيير الفعلي والعميق، مجرد إزاحة صور وتعليق صور جديدة، بل مسار تحول مجتمعي، تكون فيه قيم الديمقراطية والتعدد والحقوق، راسخة ومُشبَّعة داخل هذا المجتمع. ما يعني أن التغيير ليس حدثاً سياسياً فحسب، بل هو تحول مجتمعي شامل، يحصل في مسار تفاعلي وتاريخي بين المجتمع والدولة، ووفق حراك داخل الدولة وليس خارجها، بحيث كلما تقدم المجتمع خطوة أو درجة، في نظام علاقاته وقيمه ووعي أفراده، كلما تقدمت الدولة أشواطاً في التحول باتجاه الدولة الحديثة، وكلما تطورت الدولة في فاعليتها، وكفاءة أدائها وقوة حوكمتها، كلما أحرز المجتمع ارتقاء في ذهنيته، ونضجاً في وعي وسلوك أفراده. الدولة تتقوى بالمجتمع والمجتمع يتقوى بالدولة، وخارج هذه الجدلية، لن تجد سوى حياة بداوة أو حاكم متأله.
حين يتظلل إطلاق “لقاء المعارضة في الجزيرة العربية”، بظل ولاية الفقيه ورعايته، مثلما حصل في ضاحية بيروت الجنوبية، فهو يساند المسعى الإيراني، في عزل المكونات الشيعية، عن المكونات المجتمعية الأخرى داخل أوطانها، بأن تتبنى ثقافة وقواعد شرعية سياسية، لا تقبل أن تُعمم أو تُعتمد لدى المكونات الأخرى، ذات الخلفية الدينية أو المذهبية المختلفة، ما يضعف ويوهن لديها (أي المكونات الشيعية) الإنتماء الوطني الجامع، وينسف أصل فكرة الدولة لديها، بحكم أن قوام الإنتماء إلى الدولة، هو حصر الولاء لها، لا صرفه إلى جهة خارجها.

أما تعميم المعارضة على ما أسمته بـــ “الجزيرة العربية”، فهو حذف لعدة شعوب عربية، ولعدة دول عربية بشخطة قلم واحدة. هو تعميم يتجاهل تاريخ شعوب بأسرها ويستخف بتجاربها، ويلغي مسار إنجاز تصاعدي، ونمو لدولها يستحقان الإعجاب والتقدير.

أما تعميم المعارضة على ما أسمته بـــ “الجزيرة العربية” فهو حذف لعدة شعوب عربية، ولعدة دول عربية بشخطة قلم واحدة

فالشعوب لم تعد تُعرَف أو تُعرَّف بمكانها الجغرافي بل بدُوَلِها، ومجرد تغليب المكان الجغرافي على الشعوب، فهو تسطيح لثقافتها وتجاهل لتاريخها، وتسخيف لحاضرها وازدراء لتجاربها السياسية. نعم هي دول وشعوب، مثل باقي شعوب ودول العالم العربي، ما يزال أمامها الكثير، باعتراف مسؤوليها و نخبها، وما تزال مسألة الحريات والتمثيل السياسي والحقوق، محلاً للمطالبة القوية فيها، رغم أنها قطعت شوطاً لابأس به في هذا المجال، إلا أن ما هو منجز ومتحقق، في حاضر هذه الدول، رصيد صلب يتم البناء عليه، لمراكمة مزيد من الإنجازات وتحقيق التحول المأمول.


لكن أن تعلن جماعة بعدد أصابع اليد، من قلب ضاحية بيروت الجنوبية، مشروع معارضة يطمح إلى إسقاط هذه الدول وإزالتها، وإنشاء كيانات جديدة ودول جديدة، فهذا تجاهل للتاريخ بل خروج منه، قطيعة مع الواقع والسكن في عالم افتراضي. هي مبادرة غير معنية بالتغيير أو بالمعارضة، لأن التغيير يبدأ من الواقع، ويسلك به سبيل التغيير والتحول والتطور. أما الطموح بحذف واقع قائم بكامله، واستبداله بواقع آخر متخيّل ومبهم، فهذا مباين ومناقض لأي نشاط معارض، يهدف إلى تحقيق تغيير فعلي وملموس، بل هو أقرب إلى: هلوسة فكرية، هرطقة سياسية، أدلجة دينية، مزاودة مذهبية، حماوة خطابية لا أثر لها سوى الصخب الصوتي والمؤثرات البيانية، مشروع وهمي يعفي أصحابه من تحمل مسؤوليته، لأنه مشروع مستحيل غير قابل للتنفيذ.

لكن أن تعلن جماعة بعدد أصابع اليد من قلب الضاحية مشروع معارضة يطمح إلى إسقاط هذه الدول وإزالتها وإنشاء كيانات جديدة ودول جديدة

ما أعرفه بثقة، أن القاعدة الأوسع من الشيعة الإمامية في دول الخليج، تعلموا من التجارب السابقة، وأدركوا من خلال عقلائهم أن مدخل التغيير والإصلاح في بلادهم، ليس بالاستغراق بظُلاماتهم الخاصة، أو التترس بخصوصياتها الفاصلة والتمايزات العازلة، أو الاستعانة بدول تتظاهر بالإشفاق عليهم، أو تعرض عليهم عناصر قوة وهمية وواهية، بل بالاستغراق بوطنيتهم الجامعة والولاء الحصري لدولهم. ما يحوِّل مشروع التغيير والإصلاح واكتساب الحقوق، من مشروع ملّة أو فرقة أو مذهب، إلى مشروع مجتمع بأسره، ويجعل تطوير الدولة وإصلاحها، لا بالقطيعة معها أو إسقاطها، بل العلاقة التفاعلية والإيجابية والجدلية معها. بذلك لا تعود المعارضة السياسية مشروع إسقاط للدولة، بل مشروع تطوير وتحويل لها من داخلها، ويكون هاجس الحقوق ليس تحصيل حق أقلية أو جهة مهمشة، بل ترسيخ منظومة حقوقية عامة داخل المجتمع تتوزع منافعها على جميع الأفراد والمكونات المجتمعية بالتساوي.

حدث إعلان اللقاء في الضاحية تتلقفه المملكة العربية السعودية ودول الخليج، على أنه مجرد رسائل سياسية إيرانية في سياق السجال والمواجهة الحاصلان بينهما

حدث إعلان اللقاء في الضاحية الجنوبية، تتلقفه المملكة العربية السعودية ودول الخليج، على أنه مجرد رسائل سياسية إيرانية، في سياق السجال والمواجهة الحاصلان بينهما. لكنه يفهم على المستوى الشيعي العربي، بوجود مسارين متقابلين أو متضادين: أولهما مسار يؤكد أن إثبات الشيعة لأنفسهم، هو في اندماجهم الكامل في أوطانهم وولائهم الحصري لدولهم، وهو مسار تجد مسوغاته وتأسيساته الفقهية والنظرية، في فكر الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين. وثانيهما، مسار يرى التشيع: هوية خاصة، تبقى الشيعة على مسافة فاصلة من المكونات الأخرى المجاورة لها، وحقيقة سياسية عابرة للدول والأوطان، تقوم بالولاء المطلق والطاعة اللامشروطة للولي الفقيه، الذي ليس صدفة أن يكون رأس النظام الإيراني حصراً.

السابق
الحريري يعلن قراره لكتلته مساء اليوم.. ماذا في التفاصيل؟
التالي
مجلس الوزراء يعاود اجتماعاته الاثنين: ماذا في جدول الأعمال؟