4 آب: موتُ حياة

محمد عبيد

لا الحزن إنتهى ولا الغضب بلغ مداه ولا العدالة تحقّقت!

عام على جريمة تفجير مرفأ بيروت وتداعيات هذه الجريمة ما زالت تحفر في وجدان اللبنانيين وفي يوميات حياتهم وكذلك في إحتمالات مستقبلهم.

عام والسلطة الحاكمة تراوغ للهروب من مسؤولياتها المعنوية والوظيفية والأمنية والعسكرية. فقد إعتادت هذه السلطة لسنوات طويلة خلت أن تحاسِب ولا تُحاسَب، كيف لا والقضاء والإدارات والمؤسسات الحكومية لعبة بأيديها، كذلك الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية؟

غير أن هول هذه الجريمة وحجم إرتداداتها الإنسانية والأخلاقية على المستويين المحلي والدولي، جعل إمكانية تجاوزها سياسياً تحت ذريعة ضرورة اللملمة السريعة لآثارها الداخلية والتهويل بخطورة تبادل الإتهامات السياسية حول المسؤوليات، أمراً مستحيلاً لسببين أساسيين: الأول، التحولات في المزاج الشعبي العام وأهمها سقوط حاجز الخوف من السلطة الحاكمة نتيجة إنتفاضة 17 تشرين الأول من العام 2019. والثاني، ترافق حصول هذه الجريمة الكارثية مع الإنهيار الاقتصادي والمالي الكبير الذي أصاب من اللبنانيين مقتلاً معيشياً وحياتياً، زاد على غضبهم حقداً على هذه السلطة.

لم تكن السلطة الحاكمة تتوقع أن تواجه كل هذه الأزمات دفعة واحدة، فهي بعد لم تهنأ بالتسويات التي جمعت أطرافها الطائفية السياسية في برلمان مُرَكّب تحكمه ما يسمى الميثاقية القائمة على بدعة الأقوى في طائفته لضمان إعترافهم ببعضهم، وفي حكومات محاصصة مدروسة تقاسمت حينها بقايا الدولة والمال العام وودائع اللبنانيين بين معظم أركان هذه السلطة.

لذلك تعيش السلطة الحاكمة اليوم حالة إختلال في التوازن، الى جانب تصدّع كبير في صفوفها التي بات من الصعب جداً إعادة ترميمها أو جمعها على مشروع سلطوي جديد، ولولا حاجة “حزب الله” الى الإستمرار في الإستثمار سياسياً في ما تبقى من تركيبة هذه السلطة، وهو الذي شكل رافعة تكوينها، لكانت هذه التركيبة الهشة قد سقطت منذ سنتين على الأقل.

قد يكون مبرّراً للحزب إقتناص فرصة قدرته على إيصال مرشح لديه حيثية سياسية وشعبية الى رئاسة الجمهورية، وقد يتقبّل البعض إصراره على إعادة إنتاج رئيس لمجلس النواب إستنفد كل إمكانيات قبوله وطنياً وسياسياً.

لكنّ الوقائع المتعلقة بجريمة إنفجار مرفأ بيروت والتي لا تشير بأي شكل من الأشكال الى تورط “حزب الله” فيها، تفرض على الحزب النأي بنفسه عن المسار القضائي الذي سيطال حكماً بعضاً من حلفائه أو أصدقائه في مواقع مختلفة. هؤلاء الحلفاء والأصدقاء الذين يجب أن يتحمّلوا مسؤولياتهم إنطلاقاً من وجودهم في السلطة لسنوات طويلة وإمساكهم بمفاصل إدارتها ومؤسساتها.

وإذا كان من الضروري الحذر من إحتمال تسييس ملف التحقيق رغم عدم توفر أدلة على ذلك، فإنّ المسؤولية الوطنية والإنسانية تفرض منع تسييس وتطييف المواقف من الإستدعاءات والإدعاءات والملاحقات والإتهامات القضائية.

وإذا كانت قوى السلطة الفاسدة منها والفاشلة لا تقيم أي إعتبار إنساني وأخلاقي لضحايا إنفجار المرفأ من شهداء وجرحى ومتضرّرين، فإن “حزب الله” معني بالتفاعل إنسانياً وأخلاقياً ووطنياً مع هؤلاء الضحايا إنطلاقاً من تجاربه في المقاومة، وتحمّل عوائل شهدائه وجرحاه أعباء عاطفية ونفسية مماثلة لما تتحمّله اليوم عوائل ضحايا المرفأ.

والأهم، إذا كان “حزب الله” يعتبر نفسه أنه يستحق الإنصاف وطنياً نتيجة تحريره لبنان من العدوّين الإسرائيلي والإرهابي التكفيري، وهو يستحقّ ذلك بجدارة، فإن ضحايا إنفجار المرفأ وعوائلهم والشعب اللبناني برمّته وعاصمته يستحقّون الإنصاف قضائياً وبالتالي تحقيق العدالة من خلال الإقتصاص من المسؤولين الذين تسبّبوا بهذه الفاجعة المروعة، منذ لحظة تدبير إنطلاق الباخرة “روسوس” التي حملت نيترات الأمونيوم من مينائها الأول ووصولها الى مرفأ بيروت الى حين إنفجارها.

جريمة 4 آب ليست إنفجار سيارة مفخخة في زمن حروب الميليشيات، كما أنها ليست محاولة إغتيال لمسؤول ما تعرض مواطنين آخرين للضرر نتيجة وجودهم في المكان نفسه، كذلك فإنها ليست إشتباكاً مسلّحاً بين تنظيمين سقط بسببه ضحايا أبرياء. هي في الواقع جريمة أبرز توصيف لها إعتبارها ثالث أكبر إنفجار في العالم، والأخطر أنه جرى في عاصمة تعتبر بمثابة حي من أحياء أي عاصمة كبرى في أي بلد في العالم.

ممّا يعني أن التعاطي معها على أنها حدث يمكن تجاوزه من خلال إستحضار تفسيرات دستورية “إحتيالية” لمبدأ الحصانة بهدف منع المحاكمة عن مسؤولين في السلطة، أو من أجل منحهم بعض الوقت للمماطلة بإنتظار متغيرات سياسية تضع قضية كشف حقيقة هذا الإنفجار في آخر درجة من سلم الأولويات الوطنية، سيؤدي حكماً الى مطالبة بعض اللبنانيين وخصوصاً منهم أهالي الضحايا بالذهاب الى مؤسسات قضائية دولية يمكن أن تساعدهم لنيل العدالة.

في حين أن بعض القضاة المتمرّسين والنزيهين يعتبرون أن مبدأ الحصانة لا ينطبق على الحالات القضائية الحالية التي يتصدى لها المحقق العدلي طارق البيطار، الى جانب أن التذرع بمرجعية ما يسمى “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب” صار أمراً ممجوجاً، خصوصاً وأن اللبنانيين لم يختبروا يوماً مصداقية هذا المجلس وحرفيته في معالجة قضايا مماثلة، وهو أمر ينسحب على مؤسسة التشريع ولجانها كافة.

والأهمّ، أن إستعمال الحصانة النيابية تحديداً في غير موقعه، لا بد أن يدفعنا الى البحث في الفصل بين النيابة والوزارة، وهو أمر كان على رأس الإصلاحات التي أرادها الإمام السيد موسى الصدر في ورقة العمل الوطنية التي تقدم بها العام 1977، هذه الورقة التي شكّلت الأرضية الأساسية للإصلاحات الدستورية التي أقرت في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف.

إن إستعادة الحياة في لبنان وفي بيروت بالأخصّ بعد موتها لن تكون ممكنة، قبل تحقيق المساءلة والمحاسبة لمسؤولين قتلوا اللبنانيين بفسادهم بعدما دمّروا حاضرهم ومستقبلهم.

السابق
هل فعلاً اقتحمت الصيدلية بسيارتها لعدم بيعها الدواء؟
التالي
استبدلت سفينة «سافيز» بأخرى للتجسس.. صور فضحت سر إيران!