عبد الحسين شعبان يكتب لـ«جنوبية»: السياسة بين التهذيب و«التشذيب»!

عبد الحسين شعبان
يستضيف موقع "جنوبية" الأكاديمي والمفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان عبر مقالات تحاكي القضايا الاستراتيجية و التحديات السياسية والإقتصادية ومجالات حقوق الإنسان في المنطقة والعالم.

على الرغم من سعيّ الإنسان لتحقيق السلام والأمن، إلاّ أن التناقضات المجتمعية والدولية قادته إلى الانخراط في حروب ونزاعات وصراعات لا حدود لها، وكان التغوّل وما يزال عملة متداولة بكثرة في التعامل السياسي، وقد ساهمت وسائل الاتصال الحديثة والثورة العلمية – التقنية، وتكنولوجيا الإعلام والاتصالات والمواصلات في ظل الطور الرابع من الثورة الصناعية في عصر العولمة من تعميم نماذج مختلفة وغير مألوفة للذوق السياسي والأخلاقي في التعبير عن أمور عديدة.

ولعل ما استوقفني على هذا الصعيد مؤخراً هو الصفعة التي تلّقاها رئيس جمهورية فرنسا إيمانوئيل ماكرونوردود فعله الهادئة والباردة والقانونية والأخلاقية إزاءها. وإعلامياً كنتُ أتابع بعض رسامي الكاريكاتير أو بعض محاوريّ البرامج المتلفزة على استخدام تعابير نابيّة أو مسيئة للكرامة على نحو أحمق وأخرق وخال من الذوق، بهدف الحصول على أكبر عدد من المتابعين، والأمر لا علاقة له بالسخرية كفّن من الفنون ووسيلة تحريض وتعبئة، وهي جزء من هدف سامٍ أحياناً، غرضها التبخيس بالعدو أو الخصم وإظهار قبح أفعاله وسوء تصرفاته.

إقرأ أيضاً: عبد الحسين شعبان يكتب لـ«جنوبية»: بايدن-بوتين.. «إستراحة» الحرب الباردة!

لقد تجدد قاموس الإهانات واكتسب بعداّ جديداّ منذ أن قذف الصحافي العراقي منتظر الزيدي جورج دبليو بوش بحذائه في بغداد تعبيراً عن استيائه من احتلال بلده. ليس هذا فحسب، بل إن الرئيس جو بايدن قال عن غريمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل لقائه في جنيف بأنه قاتل وفاشل، والقائمة تطول بمن استخدم عبارات مقززة أحيانا وصولاً إلى الرئيس البرازيلي جايير بولسنارو الذي ضرب رقماً قياسيّاً مسجلاً سابقة باستخدام الكلمات المشينة والمُخجلة، مثلما فعل قبل ذلك ضد القوى اليسارية، فذهب إلى السخرية من ماكرون وزوجته ومظهرها وسنّها، وهي طريقة غير لائقة وغير دبلوماسية، بل خارجة عن أدبيات التخاطب، وذلك في معرض الجدل حول سياسات البرازيل البيئية وعدم الالتزام بالوعود التي قدمتها خلال قمة المناخ العالمية. وبالمقابل، أبدى ماكرون أسفه من أن يكون الشعب البرازيلي،٢ تحت قيادة رئاسة بهذا المستوى على الرغم من أن وصولها كان ترجمة لإرادة صندوق الاقتراع.

إذا كان ثمة مشتركات بين الفاشية القديمة والنازية الإيديولوجية فإن هناك تعارضات بينها وبين الشعبوية العنصرية الإستعلائية الجديدة

وإذا كان ثمة مشتركات بين الفاشية القديمة والنازية الإيديولوجية، فإن هناك تعارضات بينها وبين الشعبوية العنصرية الإستعلائية الجديدة، فالأولى اعتمدت “الانضباط” حتى وإن كان مصطنعاً بزعم الالتزام بتعاليم الكنيسة كمرجعية أخلاقية، وهو ما عبّر عنه بحزم الجنرال فرانكو الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار قرابة أربعة عقود من الزمن.

قد يستسيغ البعض منّا، لدرجة الاستمتاع، حين يسمع كلاماً بذيئاً أو جارحاً أو تعريضاً نابياً أو تشهيراً صادماً أو فضيحة مدوّية، أو اتهاما خارقاً لعدوه أو خصمه، ولا يهم إن كان مثل هذا السلوك أو التصرف خارج دائرة القيم التي يدعو إليها والمبادئ التي يروّج لها من قبيل احترام الرأيّ والرأيّ الآخر، والتعددية والتنوع، والحوار الموضوعي وحتى خارج دائرة الأخلاق والعقلانية التي يتشدّق بها، طالما أنها تستهدف الآخر/الضد، بهدف إقصائه من المجال العام، عبر شيطنته وتشويه صورته بحديث غير لائق وشتائم رخيصة وألفاظ محقِرّة، دون أن يدرك من يقوم بمثل هذا الفعل الشنيع، أنه ينتزع جزءًا من إنسانيته ويبتر قطعة من ضميره.

الازدراء والاحتقار بهدف النيل من الآخر أو الإساءة إليه يعرّض أصحابها للمساءلة في أيّ دولة يكون القضاء فيها محترماً ومستقلاً!

السلوك السياسي السويّ والأخلاقي غالباً ما يكون منطقياً وموضوعياً ورزيناً، وهو ما يقدّره الجمهور في نهاية المطاف، أما الازدراء والاحتقار والتسقيط والنبّذ، بهدف النيل من الآخر أو الإساءة إليه أو تزوير الحقائق أو الدعاية السوداء وأساليب التضليل، فإنها في أيّ دولة يكون القضاء فيها محترماً ومستقلاً، نزيهاً وعادلاً، يعرّض أصحابها للمساءلة، بل قد يكون رادعاً لها وخصوصاً في الدفاع عن القيم الإنسانية، فثمة فوارق جوهرية بين حرية التعبير-وهو حق من حقوق الإنسان لا جدال فيه- وبين ممارسة التشهير كصفة ذميمة غير محمودة.

لقد أصبحت بعض الفظاظات السياسية وانفلات اللسان أو القلم، طريقة جذّابة ومُغرية لبعض النخب

لقد أصبحت بعض الفظاظات السياسية وانفلات اللسان أو القلم، طريقة جذّابة ومُغرية لبعض النخب، طالما أنها تستهوي الجماعة المحتزبة، أو مستوياتها الدنيّا، ويلجأ البعض إلى ذلك كأسلوب محبّب للتفكّه والتنّدر ويسميّه دون وعيّ حريّة التعبير، بل يطالب أحياناً من تلحقه الإساءة بالرد عليها، كي تستمر لعبة التشهير. ويكفي أن نراقب بعض المحطات التلفزيونية أو بعض مواقع التواصل الاجتماعي، لنرى ما يُبثّ وينشر فيها من غثّ وسمين، حيث يتم التراشق والتنابز والتفاضل والتفاخر إلى درك تشويه الخصم ونعته بأقذع النعوت وانساب كل ما هو قبيح وسيئ له، واعتبار كل ما هو جميل وخيّر حكراً على دينه أو طائفته أو قوميته أو حزبه أو جماعته أو دولته.

ويصبح لزاماً على المعنيين، من صنّاع القرار من تربويين وجامعيين وفعاليات سياسية وثقافية ودينية ومدنية، والمسؤولين عن مواقع التواصل الاجتماعي أن يضيفوا إلى برامجهم “علم الأخلاق” و”علم الجمال” و”حقوق الإنسان”، كي يتم تنزيه السياسة وتهذيبها بالمعنى النبيل الذي قال به أرسطو بـ”أنها الخير العام”، وهو ما واصله مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون.

السابق
انخفاض بسعر صرف الدولار.. هكذا افتتحت السوق السوداء صباحاً
التالي
الحرب على المُخدرات تابع: كبتاغون من لبنان الى السعودية بيد القوى الأمنية!