في زمن «المارونية السياسية» تأسّس الضمان الاجتماعي.. في زمن «الشيعية السياسية» يَحتضر الضمان الاجتماعي

الكاتب جهاد الزين

هل سيأكل المحتاجون الشيعة كما محتاجو كل الطوائف الأخرى أوراق معاملاتهم المكدّسة في إدارات عاجزة ومفلسة فتشبع ذواتُهم الطائفية الوهمية وهي تواجه حقيقة انهيار نظام سياسي تساهم التعبئة الطائفية التي تتوجّه لهم في حراسة انهياره. أعجبني “ناشط” على الفايسبوك توجّه لمن بأيديهم السلطة وبلهجة هرملية مُحكمة: ينقطع البنزين فنستورد بنزينا من إيران ولكن إذا انهار الضمان الاجتماعي كيف نستورد ضمانا اجتماعياً من إيران؟!

لازال الضمان الاجتماعي يقدّم خدمات هامة للمجتمع اللبناني. لكن من الواضح أنه يحتضر. يخدم وهو يحتضر. فالبلاغ الذي صدر عن إدارة الضمان بحصر الموافقات على الدخول إلى المستشفيات بالحالات الطارئة دون توضيح المعنى الدقيق لهذه الحالات، وهل هي تشمل مثلا المرضى المصابين أو الذين تثبت إصابتهم بأمراض خبيثة، هو إنذار غير كاذب على انتهاء حقبة اجتماعية من تاريخ لبنان.
هذا البيان هو بداية إعلان نهاية حقبة مديدة استمرت منذ الستينات لم يكن لبنان فيها بعيدا كثيرا عن نطاق تطبيق الضمان الاجتماعي في بلدان أوروبية كفرنسا. تسقط إذن مع الطبقة الوسطى “دولة الرعاية”.

اقرأ أيضاً: عشية مؤتمر الدعم.. البنك الدولي يحذر: الجيش مهدد بأسوأ الانهيارات المالية عالميا

لا نعلم حالة الأموال الوفيرة أو التي كانت وفيرة لفرع تعويضات نهاية الخدمة، الفرع الاستراتيجي الأهمية في الضمان الاجتماعي إن لناحية مدى تأثّره بمديونية الدولة المتعثرة وكم أخذت من فوائضه أو لناحية هبوط قيمة تعويضات الأُجَراء مع انهيار سعر العملة الوطنية، لا بل تلاشيها، هذا ناهيك عن فقدان أو تجميد هذه التعويضات في المصارف اللبنانية، وهي تعويضات “جنى العمر” كما جرى العرف على تسمية الودائع المتعلقة بصغار المودعين. وهي تسمية بمكانها بالنسبة لمئات آلاف اللبنانيين.
أفكّر في هذه اللحظات بالذين لم يسحبوا بعد تعويضات نهاية خدمتهم من “الضمان الاجتماعي” كما طبعا بالذين حجزت المصارفُ تعويضاتهم. لكن ما هو أخطر من كل ذلك أن هذه المؤسسة التي كانت من إنجازات المرحلة الشهابية الأساسية تُنازع لكي لا تنهار وبيانها بل بلاغُها الاستشفائي أو اللا استشفائي الأخير هو دليل كبير في هذا الاتجاه.
دعني أوضح هنا أن المسألة لا تتعلق بإدارة الضمان بل أكبر من ذلك بكثير. فهي ليست مسؤولية طاقم وظيفي وحده حتى بوجود ملفات فساد، لأنها من علامات الانهيار السياسي الذي تتحمّل مسؤوليته المنظومة السياسية للبلد. إنها لمن المفارقات الكبرى أن تكون هذه المؤسسة وُلدت في زمن “المارونية السياسية” وتتهدّد بالانهيار في الزمن المصطَلَح على تسميته زمن “الشيعية السياسية” التي هي جزء فاعل من المنظومة المتعددة الطوائف والطائفيات التي تمسك بخناق نظام سياسي يختنق. والذي يزيد من هزلية المفارقة ومأساويتها معاً أن الشيعة بحكم العدد واتساع الطبقة العمالية وذات الدخل المحدود بينهم سيكونون من أكبر الخاسرين من تراجع أو انتهاء مؤسسة الضمان الاجتماعي. لن يهنأ طبعا الفقراء الشيعة الكثر وبقايا طبقاتهم الوسطى كما الفقراء السنة والدروز والمسيحيون من انهيار أحد أهم أركان الدولة اللبنانية كدولة رعاية على النمط الأوروبي وخصوصا الفرنسي.
هل سيأكل المحتاجون الشيعة كما محتاجو كل الطوائف الأخرى أوراق معاملاتهم المكدّسة في إدارات عاجزة ومفلسة فتشبع ذواتُهم الطائفية الوهمية وهي تواجه حقيقة انهيار نظام سياسي تساهم التعبئة الطائفية التي تتوجه لهم في حراسة انهياره. أعجبني “ناشط” على الفايسبوك توجه لمن بأيديهم السلطة وبلهجة هرملية مُحكمة: ينقطع البنزين فنستورد بنزينا من إيران ولكن إذا انهار الضمان الاجتماعي كيف نستورد ضمانا اجتماعياً من إيران؟!
نحن في أزمة نظام سياسي كل القوى التي تعوّدت على نمط من العمل السياسي هي شريكة فيه. أشرت إلى الفكرة المتعلقة بطائفة محددة لأن هذه الطائفة جرى تحميلها فكرة “الحرمان” وباسم استثمار هذه الفكرة الناجح أمكن لتيار سياسي التهام جزء مهم من النظام السياسي… إنه التهام يبدو اليوم أن الشراهة السياسية والإدارية التي مارسها (ودائما مع الميليشيات والحركات الطائفية الأساسية الأخرى )أصابت معدة النظام بتخمة سرطانية قاتلة.
يتعرّض النظام السياسي اللبناني لإصابة تشبه اندلاق أحشاء مصاب إلى الخارج وتعرضها لأشعة الشمس. نريد بياناً مفصّلاً من السلطة السياسية عن مصير أموال تعويضات نهاية الخدمة التي كانت تقليديا مزدهرة رغم مديونية الدولة العاجزة.
ربما جاء يوم يكتب فيه مؤرخ، بل سيأتي، أن “دولة الرعاية” التي كانت في طريقها الأوروبي حتى بعد اندلاع الحرب عام 1975 قد ماتت على يد قوى مواجهة “الحرمان”..
… والغبن والإحباط و السيادة والتحرير… وكل المحرِّضات المؤسِّسة للانهيار والحارسة له. ناهيك عن الخرافات الملحقة بكل ذلك.
يترافق صعود احتمال انهيار الضمان الاجتماعي في لبنان مع إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل مكرون عن قيام فرنسا بطرح فكرة وضع لبنان تحت نوع من الوصاية الدولية الإنسانية في حال انهيار الخدمات العامة الواحدة تلو الأخرى. إنه الحضيض . واللبنانيون يحتاجون إلى وصاية دولية شاملة.

السابق
عشية مؤتمر الدعم.. البنك الدولي يحذر: الجيش مهدد بأسوأ الانهيارات المالية عالميا
التالي
لبنان على موعد مع إضراب عام يشلّ كافة القطاعات.. والمصارف مشاركة!