سعد الحريري «يرمي الجمرات على شياطين».. التعطيل!

سعد الحريري رئيس الحكومة المكلف
قراءة سياسية في كلمة الرئيس المكلف سعد الحريري خلال مناقشة رسالة رئيس الجمهورية ميشال عون حول التأخر الحاصل في عملية تشكيل الحكومة، حيث وضع الحريري النقاط على الحروف في الجلسة التي عقدت في مجلس النواب- الاونيسكو

بالأمس أعاد اللبنانيون من جديد إكتشاف رئيس حكومتهم السابق، والمكلف ليكون اللاحق سعد الحريري.

كان ذلك في جلسة مناقشة الرسالة التي بعث بها رئيس الجمهورية ميشال عون إلى مجلس النواب، شاكياً الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري على طريقة “ضربني وبكى سبقني وإشتكى” وبإسلوب الحق الذي “يراد به باطل”. الحق هو حق الرئيس طبعا بتوجيه الرسائل إلى مجلس النواب، والباطل هو ما جاء في الرسالة “الملغومة” التي قد يكون الرئيس “تورط” بمضمونها، المخالف كلياً للدستور والأعراف في لبنان، بما لا يليق بمن هو الحامي الأول والأمين على حسن تطبيق هذا الدستور وهذه الأعراف، وهو الأمر الذي لم يكن يخفى على كل مراقب منصف، لتصرفات الرئاسة الأولى منذ إستقالة حكومة حسان دياب التي “تطايرت” بشظايا إنفجار مرفأ بيروت وحتى اليوم، وهي التصرفات التي أشار إليها وعددّها أمس في جلسة المناقشة الرئيس المكلف سعد الحريري.

إقرأ أيضاً: قصف متبادل في الجلسة.. ردّ ناري من الحريري على عون: لن اشكل حكومة كما يريدها فريق الرئيس!

في الشكل جاءت الرسالة مباشرة بعد الأزمة التي أثارها وزير الخارجية السابق شربل وهبة – المحسوب على رئيس الجمهورية – ، في أعقاب حديثه إلى محطة “الحرة”، وما تخلله من ” سقطات ” دبلوماسية وسياسية وحتى أخلاقية، بحيث بدت وكأنها محاولة للتغطية على هذه الأزمة التي كادت أن تطيح بالعلاقات اللبنانية – السعودية، سيما وأنها جاءت بعد عدة أيام فقط من أزمة “رمان الكبتاغون”، التي أدت إلى قرار السعودية بوقف إستيراد ودخول الخضار والفواكه اللبنانية إلى أراضيها، وهو القرار الذي أصاب الصادرات اللبنانية والمزارعين في مقتل، في ظل الأزمة الإقتصادية والمالية في لبنان، خاصة وأن هذه العلاقات تمر أصلاً بمرحلة فتور شديدة، لم تكن وليدة اليوم حقيقة، بل بدأت مع تسلم جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر، مهام وزارة الخارجية في حكومة تمام سلام عام 2014، وتصاعدت مع مرور الأيام حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم للأسف، جراء ما يمكن أن نسميه اليوم دبلوماسية “الرمان والكبتاغون” على وزن “العصا والجزرة”، وهو ما لا يليق بسمعة لبنان الدبلوماسية التي كانت منذ الإستقلال وحتى الأمس القريب، مشهود لها بالإحترام والإحترافية التي مكنت لبنان، من أن يكون مساهما في إعداد أكثر من ميثاق وشرعة دولية وعربية، منذ أيام شارل مالك وغيره من الشخصيات الدبلوماسية اللبنانية.

في المضمون لم تحمل الرسالة أي جديد يذكر، بل هي تكرار لمواقف وممارسات باتت معروفة للجميع، منذ ما قبل تكليف الرئيس الحريري مجددا بتشكيل الحكومة، بعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه منذ إندلاع ثورة 17 تشرين، وما رافقها وتبعها من تطورات ومحاولات إلتفاف على الحقائق وتجاهل ونكران للواقع، تجسد بحكومة حسان دياب التي أتت من خارج كل “المبادئ”، التي كان يعلنها ويصر عليها الرئيس ميشال عون وتياره السياسي، من ناحية التمثيل السياسي للأقوى في طائفته وغيرها من الأمور، حتى إنتهى الأمر بفشل ذريع على كل المستويات تكلل بإنفجار المرفأ.

كلمة الحريري بمثابة وضع النقاط الثابتة على حروف الوطن التي بعثرها تجار السياسة وسماسرة المناصب

هذه الممارسات التي تابعها اللبنانيون منذ عشية تكليف الرئيس الحريري، التي حاولت ونجحت حتى الآن بوضع العصي في دواليب التشكيل، حملت الكثير من التنمر على الرئيس المكلف، ومحاولات حشره وإحراجه لإخراجه عبر “تحقيره” في عدة مناسبات، والتي تحملها الرئيس الحريري بكل ما يحمله من أخلاقية سياسية، لا يمكن حتى لخصومه قبل حلفائه أن ينفوها عنه، بغض النظر عن الموقف السياسي منه، ومع ذلك إستمر البعض من محيط الرئاسة والمستشارين في غيهم، فيما إعتبرها البعض الآخر منهم وبسبب من لا أخلاقيتهم، إعتبروها نقيصة وضعف في شخصية سعد الحريري، وهو ما أوقعهم في شر أعمالهم، وجاءت رسالة الرئيس للمجلس النيابي التي “دبروها بليل”، لتعطي الرئيس سعد الحريري اليوم الفرصة ليضع الأمور في نصابها الصحيح، وبنفس الأخلاقية في التعامل دون تشنج أو تجنٍ، وكانت كلمته أمس بمثابة وضع النقاط الثابتة على حروف الوطن، التي بعثرها تجار السياسة وسماسرة المناصب، لتبدو الصورة واضحة جلية بعد أن “بق” البحصة كاملة – وما أكثر البحصات التي يختزنها الحريري من مسيرته السياسية – التي كان قد بق جزء منها في آخر لقاء له مع رئيس الجمهورية في بعبدا، بإنتظار بق باقي البحصات التي لطالما هدد بكشفها، لكنه كان يتراجع حفاظا على ما تبقى من ود، و ربما حفظا لخط الرجعة، مع ما كلفته هذه البحصات من أثمان سياسية وشعبية دفعها في الداخل والخارج من رصيده الشخصي، حتى كان أمس يوم المواجهة والمكاشفة بكل صدق ووضوح وشفافية، و شبيه بيوم “رمي الجمرات ” على شياطين التعطيل، الذين لم ينفع معهم لا تنازلات ولا تسويات ولا نوايا سليمة، والذين ينطبق عليهم قول الشاعر “إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا”.

بدا سعد الحريري امس كما لا يعرفه أحد من قبل. إنسان سياسي حازم وقاطع وشفاف، خلع عنه رداء الدبلوماسية والمداراة، إنسان صقلته التجربة السياسية في لبنان – ويا لها من تجربة – مع ديناصورات السياسة، الذين قدِم معظمهم من تجربة الحرب والمساومات والتقلبات والإنقلابات في التحالفات والعداوات، ممن يعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف ومتى تؤكل، دخل مع بعضهم في تحالفات أثمرت حينا وفشلت في أحيان أخرى، ودخل مع بعضهم في خلافات وصلت حد الحرب عليه، بعد أن أوقعه البعض من حلفائه في “ساعة تخل” في دعسات ناقصة لم يكن أوانها، وها هم اليوم يزايدون عليه ويطالبونه بالتضحية من أجل لبنان، وهم الذين لطالما عايروه بهذه التضحيات قبلاً، وهذا طبعا لا يعفيه و مستشاريه يومها من المسؤولية، حاول تدوير الزوايا وعقد التسويات فكان أن خسر “الحلفاء” الذين كادوا له كيدا بعدها عند “الحليف” الإقليمي، ولم يربح خصومه الذين لهم مشروعهم في السلطة ومع حليفهم الإقليمي المقابل.

تعب الحريري وأتعب بيئته ومحبيه ودفع الثمن في إنتخابات 2018 التي إستغلها شركاؤه في التسوية لمحاولة كسره

فكان أن تعب و أتعب بيئته و محبيه ودفع الثمن في إنتخابات 2018، التي إستغلها شركاؤه في التسوية لمحاولة كسره وتطويعه وباتوا كالشريك المضارب، “لهم الغُنم وعليه الغُرم” حتى كانت 17 تشرين التي كأنما أتت لتحرره مما هو فيه، ونزعم اليوم أن مفاعيلها هي من أمده بالعزيمة، وهي المحرك والمحفز له اليوم للإصرار على الحد الأدنى من مطالب الناس، المتمثلة بحكومة من الإختصاصيين المستقلين ولو نسبياً، وهو الأمر الذي يعارضه ويحاول إحباطه فريق رئيس الجمهورية السياسي، متذرعا ولاعبا كالعادة على وتر صلاحيات الرئيس المسيحي وحقوق المسيحيين، في وجه من يريده “الرئيس المسلم”، الأمر الذي فنده الحريري بالأمس في الجلسة حين كرر عبارة سعد الحريري اللبناني اللبناني اللبناني، هذه المحاولات التي يتلطى فيها فريق الرئيس خلف بعض مجموعات ثورة 17 تشرين، من حيث تدري أو لا تدري عبر التلطي وراء شعار “كلن يعني كلن” الذي تحول للأسف من قبل بعض المجموعات، إلى شعار مرادف للتعطيل والذي يترجمه جبران باسيل بممارسة” أنا وسعد” داخل أو خارج الحكومة، واضعا نفسه بمقام رئيس الجمهورية الذي يوازي مقام رئاسة الحكومة، وما ذلك إلا لغاية في نفسه حيث لا هم له سوى وراثة عمه على كرسي الرئاسة، ولو أدى ذلك إلى إنهيار البلد بالكامل وحتى تحلله، ووصل الأمر به وبالبعض الآخر أن يعايروا سعد الحريري، للضغط عليه بمعارضة السعودية له لترؤس الحكومة الجديدة، مع أن هذا الأمر إن صح، هو في صالحه من حيث أنه يضع مصلحة لبنان والناس فوق مصالحه السياسية والإقليمية.

هذه المرة الوضع أكبر من حكومة بل تتعلق بالبلد بأسره الذي لا يمكن أن يبقى أسير “عيون الصهر” المدلل

بالأمس وضع الحريري الأصبع على الجرح، معلنا موقفه الواضح الدستوري والوطني بإمتياز، متسلحا بحقه الدستوري وبإرادة مجلس النواب، الذي له وحده حق التكليف ومنح الثقة، بأنه “لن يشكل حكومة كما يريدها فريق رئيس الجمهورية أو أي فريق سياسي بعينه ، وهو لن يشكل سوى حكومة كما يتطلبها وقف الإنهيار ومنع الإرتطام الكبير الذي يتهدد اللبنانيين” ، وهو موقف سياسي ووطني واضح لا مجال فيه للمساومة، وينطلق من محاولة التوافق الوطني حوله وليس من منطلق التحدي، لا لرئيس الجمهورية ولا لفريقه السياسي، بل لأنه موقف غالبية اللبنانيين الذين ملوا وقرفوا من أساليب التعطيل والنكد السياسي، الذي أوصلنا إلى جهنم التي وعدنا بها رئيس الجمهورية، مصراً على السير بنا بإتجاهها، وكأني به يكرر على مسامعنا مقولته الشهيرة، ولكن هذه المرة الوضع أكبر من حكومة بل تتعلق بالبلد بأسره الذي لا يمكن أن يبقى أسير “عيون الصهر” المدلل.

على الرئيس الحريري أن يتمسك بموقفه ما دام يحظى بدعم الكتل البرلمانية وإلا فالإعتذار يصبح واجباً وطنيا

لذلك نقول أن على الرئيس الحريري أن يتمسك بموقفه ما دام يحظى بدعم الكتل البرلمانية، وإلا فالإعتذار يصبح واجباً وطنيا، حتى ولو بدا “هزيمة” سياسية، لأن حكم التاريخ لا يرحم، وليتحمل كل طرف مسؤوليته من حيث حقوقه والواجبات المتوجبة عليه، كفى تساهلاً وتضحيات في سبيل أطراف لا هم لها سوى المناصب والمكاسب، تنسب لنفسها النجاحات على ندرتها وترمي الإخفاقات على غيرها، بحجة الصلاحيات والحقوق المهدورة.

ختاما نقول أن هذا الكلام ليس من باب تزكية الرئيس الحريري على غيره، بالمطلق فللرجل هفوات وأخطاء التي تعتبر أكثر من طبيعية في سياق العمل السياسي اليومي، ولكنها أخطاء لا تصل حد تهديد مصير وطن، ودفعه دائما إلى حافة حرب أهلية سبق وأن دفع ثمنها البلد، ولا يزال غاليا بسبب من أطماع سلطوية يمكن أن تتحقق عن طريق تحسين الأداء، وإقناع الناس بالمشروع السياسي بعيدا عن الشعبوية والغوغائية وإستنفار الغرائز الطائفية والمذهبية، والإستقواء بالخارج على شركاء الوطن كما يفعل غيره، خاصة في هذه الأيام حيث تشهد المنطقة تطورات وتحولات، قد يعتبرها البعض في صالحه لكنها في النهاية، لن تكون إلا في صالح أطراف النزاعات الخارجية الأساسيين، ويدفع ثمنها الأتباع الصغار و “الكومبارس” الطامعين بأدوار أكبر من طاقتهم، لن يحصلوا عليها في النهاية، لأنهم مجرد بيادق صغار لزوم تكملة المشهد لا أكثر ولا أقل.

السابق
بالفيديو: «القومي» يستحضر شعارات الحرب في الحمرا.. ويُهدد سمير جعجع!
التالي
ردّ ناري للـ«قوّات» على تهديدات «القومي»: طويلة على رقبتكم!