العراق.. استثنائية المكان

مصطفى فحص

أعادت زيارة الحبر الأعظم، البابا فرنسيس، لفت أنظار العالم إلى العراق، زيارة كشفت عن إمكانية حقيقية لفتح صفحة جديدة في تاريخ هذا البلد إذا توافرت الإرادات الداخلية والخارجية وكانت بمستوى وأهمية المرحلة التي يمر بها العراق والمنطقة، مشروطة بقناعة شاملة لدى الجميع بضرورة أن تصمت البنادق وتخفت أصوات الساسة وصراعاتهم، ومراجعة دعاة المشاريع العقائدية لمواقفهم، للمساعدة على خلق بيئة مناسبة لإطلاق حوار وطني شامل، كان رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، أول من تلقفها ودعا إليها.

اقرا ايضاً: معنى أن يكون لبنان دولة حزب الله

دعوة أثارت جدلا سياسيا واجتماعيا، فهناك من تلقفها دون شروط، وهناك أيضا من رفضها بحجة الاحتلال، ليبرر منطقه السياسي وحماية لسلاحه، الذي ترفض جهات مدنية واجتماعية معنية بالحوار أن يكون هذا السلاح على الطاولة.

لكن دعوة الكاظمي نفسها تحتاج أن تُقدّم كمشروع متكامل، يحقق مصالحة وطنية دون استقواء طرف على آخر، قريبة في مضمونها بالسينودوس من أجل لبنان الذي دعا إليه البابا الراحل، يوحنا بولس الثاني، بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية.

في رحلة الرجاء العراقية، تمكن الحبر الأعظم من تحويل العراق إلى بلد آمن قابل للحياة، ولو مؤقتا، بعد عقود من الانقلابات العسكرية وحركات تصحيحية وحروب عبثية واحتلال وصراعات دموية، فقد أعطت الزيارة إشارة إلى ضرورة القيام بمقاربة جديدة للوضع العراقي، تنطلق من خصوصيتين، تعدديته ومكانه.

في النجف، تجلّت خصوصية المكان واستثنائيته، الذي جمع الممثل الروحي للأغلبية الكاثوليكية بالممثل الروحي للأغلبية الشيعية، في لقاء الحبر الأعظم بالمرجع الأعلى، رُسّخت النجف كعاصمة روحية لمريديها، تمثل فضاء للتشيّع الكوني، لا يمكن اختزاله بمشروع عقائدي أو محاصرته بخطاب أقلّوي. فقد قطعت الزيارة الشك باليقين أن النجف هي الحجر الأساس في صناعة عيش مشترك وحوار روحي بعيدا عن أجندات السياسة ومصالح الدول القريبة والبعيدة وأطماعها.

مما لا شك فيه أن ما جمع ما بين النجف والفاتيكان يتخطى حدود العراق، لكنه يقدم نموذجا يمكن أن تتعدى فيه حماية التعددية والاعتراف بالهوية المركبة من أور إلى أربيل، مرورا بسنجار وقره قوش ولاليش، من بيت التوحيد الأول إلى المظلومية التاريخية، عبر بغداد التي كانت بوصلة البابا وقاعدة حركته، التي دخل العراق من بوابتها وغادره منها، فدار السلام التي عانت ولم تزل تعاني صلى لها لتكون بردا وسلاما.

سِر العراق في مكانه، في تكوين الفرد والجماعة وتأثيرهما على هويته الوطنية وعلاقتها بالجغرافيا وشكل الدولة، فالعراق بتكوينه الاجتماعي والجغرافي استثناء، يحظى بمميزات جعلته منذ تشكله الجيوسياسي، قبل مئة عام، عرضة لأزمات داخلية وغزوات خارجية، غزوات لم تتغير أهدافها منذ قرون، فهو إلى الآن محطة أساسية على طريق الحرير، ولا يمكن تجاوزه كممر إلزامي للعابرين من الخليج وإليه.

فبلاد ما بين النهرين أو أرض السواد عانت من أطماع الغزاة الدائمة للأراضي المنبسطة لأنها تدخل ضمن اعتباراتهم الاقتصادية المرتبطة بحركة الإنتاج، باعتبارها أغنى من الهضاب والجبال، وهذا ما جعلها محط أطماع جيرانها سكان الأراضي المرتفعة نتيجة حاجتهم الدائمة للمؤن. وقد دفع العراق المعروف بأرض السواد تاريخيا ثمن أطماع جيرانه، سكان هضاب الأناضول والهضبة الإيرانية، الذين خاضوا عدة حروب من أجل السيطرة عليه مستخدمين ما بحوزتهم من مبررات عقائدية، اجتماعية، دينية وثقافية، كغطاء لصراعهم الاقتصادي والجيوستراتيجي. وما يريده البابا من جواره حوارا ملتزما بالسيادة بعيدا عن الوصاية.

سلطة الفاتيكان الروحية تملك ما يكفي من أدوات ناعمة تدعم تطلعاتها، ولا يمكن مواجهتها باغتيال هنا وصاروخ هناك، وشواهد التاريخ كثيرة وأبرزها ما قاله الديكتاتور السوفياتي، ستالين، عن الفاتيكان ” كم دبابة يملك” وفي المحصلة كل الترسانة العسكرية والإستراتيجية للاتحاد السوفييتي لم تستطع الوقوف بوجه تطلعات شعوب أوروبا الشرقية التي دعمها البابا الراحل، يوحنا بولس الثاني.

سنة 1967 كتب المفكر المصري جمال حمدان كتابه الشهير “شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان”، في 2021 كتب البابا فرنسيس للعالم الصفحة الأولى من كتاب “شخصية العراق الجديدة”، تختلف بالكامل عن الصورة النمطية التي تكونت وشكلت انطباعات ظالمة عنه، انطباعات يتحمل مسؤوليتها بشكل كبير من تناوبوا حكمه، ففي 3 أيام أُعيد إحياء إرث العراق الحضاري والناتج الإنساني لعلمائه وباحثيه عن الهوية والتعددية التي يمكن وصفها باستثنائية المكان.

السابق
التيار «الحر» يهاجم الحريري: إلى متى سيحتجز في جيبه وكالة مجلس النواب ؟!
التالي
أكبر ضربة في تاريخ السياحة بلبنان.. هجرة جماعية للقطاع المطعمي!