حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: ثورة ١٧ تشرين هي الأصل و حراك بكركي ثمرة من ثمارها

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

شكل خطاب البطريرك بشارة بطرس الراعي والحشد الذي حضر لتأييد موقفه، حدثاً بارزاً في مسار الازمة اللبنانية الراهنة، كما شكل خطابه نصًّا سياسياً يحدد توجهات بكركي كمركز ثقل سياسي فاعل، ينتزع من رئاسة الجمهورية كل تغطية مسيحية ويسقط خطوط الحماية الطائفية، عن اي موقع سلطوي مسيحي يأتلف مع سياسة العهد وينفذ توجهاته.

فالبطريرك الماروني الذي احتضن واطلق نظرية “الرئيس القوي”، وحصر عضوية الترشيح للموقع الرئاسي بأربع شخصيات مارونية ثم باثنتين، ليصل عبر هذا المسار ميشال عون الى بعبدا، البطريرك الراعي ذاته يستعيد ما أعطاه من بركة ودعم، معلناً مواقف لافتة تضع التيار الوطني الحر في قاعة العُري السياسي، وتكشف ظهر حزب الله من اي تغطية خارج جمهور أنصاره المحدّد، في قلب الطائفة الشيعية.

وقد شكل خطاب البطريرك الذي شخّص اصل الازمة بالقول:” لا يختلف اثنان على أنّ خروج الدولة أو قوى لبنانية عن سياسة الحياد، هو السبب الأساس لكلّ أزماتنا الوطنية والحروب التي وقعت في لبنان … مكرراً ؛ ” الدعوة إلى إقرار حياد لبنان كصفة دستورية ثابتة. ومحدداً وسيلته لذلك في ” مطلبنا مؤتمر دولي خاص بلبنان …لأننا تأكدنا أننا نواجه حالة انقلابية في مختلف ميادين الحياة العامة،… وعلى اتفاق الطائف”.

حراك بكركي ليس متوجها لتحديد طبيعة الدولة علمانية او دينية او طائفية بل يتركز بسؤال محدد هل لدينا وطن له حدود؟

مضيفاً ” لو تمكنت الجماعة السياسية عندنا من إجراء حوار مسؤول لما طالبنا بتاتًا بمؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة…نريد من المؤتمر الدولي حسم وضع خطة تنفيذية سريعة لمنع توطين الفلسطينيين وإعادة النازحين السوريين آمنين إلى ديارهم….

واعتبر ردا على دعوات متكررة لعقد مؤتمر تأسيسي، تعاطى مع فكرته جبران باسيل في خطابه الاخير واشار اليه في مقالة حديثة مسؤول اعلام حزب القوات، ردّ قائلا: ان ” اي تطوير للنظام اللبناني لا يجوز ان يكون على حساب ما اتفقنا عليه،…مهما طال الوقت لن ينجح احد في ان يقضي على لبنان الرسالة…حررنا الارض فلنحرر الدولة”.
وفي ما يشبه التوجه الى الشباب في الثورة قال : “لا تسكتوا عن ما طالبتم به في الثورة وتابعوها…. لا تسكتوا عن السلاح …. أنتم لبنان بما يمثل والبطريرك لا يفرّق بين لبناني وآخر…يجمعنا اليوم ودوما لون واحد هو لبنان إليه ننتمي بالمواطنة لا بالدين، أي لبنان الدولة المدنية الفاصلة بين الدين والدولة”. وفي هذه الاشارة دعما صريحاً لمطلب اقامة الدولة المدنية التي رفعتها ثورة ١٧ تشرين…

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: التعطيل ليس غموضاً في الدستور

ليست عبارة تحرير الدولة توصيفاً انشائياً اقتضته محاكاة حماسة الحشد الكبير الذي صنع مهابة الاحتفال، بل هو تأكيد لما سبق عن تحرير الشرعية من قيودها، ومتصل تماماً بما اعلنه عن بدء مواجهة “حالة انقلابية تريد تغيير مختلف اوجه الحياة العامة والانقلاب على الطائف”.

وفيما تشكل مبادرة بكركي رفضاً قاطعاً لهيمنة حزب الله على مقاليد السلطة في لبنان، وعلى نمط العيش الذي يتدرج في ارسائه، واحتجاجاً صارخاً على الخيارات التي طبعت ممارسات الطبقة السياسية وحكومة دياب في الشهور الماضية، فان مبادرة بكركي تحاصر التيار العوني ورئيسه الوزير جبران باسيل في اضيق مساحات حركته وعلاقاته، وتجعل من اضعافه وسيلة من وسائل ردع حزب الله وتعرية تكتيكاته.

ولذلك فان حزب الله يجد نفسه محرجا في خوض معركة مواجهة سياسية مكشوفة لا حلفاء له بها، لذلك لم يجد ردا يواجه بطريرك الموارنة الا بمفتي المجلس الاسلامي الشيعي، الذي تبنى خطابا مستعاداً ومكررا من سنوات السبعينات حول رفض التدويل، وهو سجال جرى خلال الحرب اللبنانية حيث كان النظام الاقليمي العربي مازال قائماً وفاعلاً، وكانت سورية ومصر والسعودية تشكل عماد هذا الدور العربي وركيزته، فيما كانت ايران الشاه منكفئة عن اي دور لبناني مباشر.

أما اليوم فقد جرى في مجاري هذا الشرق مياه كثيرة غيّرت كل المعالم والمفاهيم، فلا امكانية ولا رغبة لأي دولة عربية، بتبني حل في لبنان او رعايته، بعد انهيار النظام الاقليمي العربي، والصراع اليوم هو بين “الأيرنة” و”الفرنسة”، فيما تدير بقية الدول العربية ظهورها للبنان وتشيح بنظائرها عن الام شعبه.

حزب الله محرج في خوض معركة مواجهة سياسية مكشوفة لا حلفاء له بها فلم يجد الا المفتي قبلان لمواجهة البطريرك الراعي!

الأمر الآخر الذي جرى في المشرق، أن التدويل حاصل في لبنان من زمن بعيد منذ صدور القرار عن مجلس الامن الدولي رقم ٤٢٥، بعد اجتياح اسرائيل لجنوب لبنان سنة ١٩٧٨، فتشكيل قوات اليونيفل تدويل ، ورسم خط الانسحاب الاسرائيلي الى الخط الازرق سنة ٢٠٠٠ تدويل، وانشاء المحكمة الخاصة باغتيال الرئيس الحريري سنة ٢٠٠٥ تدويل، وقرار مجلس الامن رقم / ١٧٠١/ لانهاء حرب تموز ٢٠٠٦ تدويل، والمبادرة الفرنسية وزيارات ماكرون تدويل، وتدخل ايران في لبنان وسوريا تدويل، وسلوك حزب الله التابع لفيلق القدس الايراني على مدى السنوات العشر الاخيرة تدويل، وقرض البنك الدولي لمساعدة الاسر الاكثر فقرا تدويل، والمحادثات مع صندوق النقد الدولي لتعويم المالية اللبنانية العامة تدويل، وعدم تأليف الحكومة بانتظار الانتخابات الاميركية تدويل، وتصريحات ظريف برفض تدخل ماكرون تدويل، وقانون قيصر ضد الاسد تدويل، وتطبيق العقوبات على جبران باسيل بموجب قانون ماغنسكي تدويل، واخيراً تطبيق العقوبات على الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس بموجب قانون الاوفاك تدويل أيضا.
واذا كانت كل هذه الامور تخضع للتدويل ومنذ سنوات، فيصبح الاعتراض على سعي البطريرك للتدويل ليس انحيازاً لسيادة دولة ، بل ذريعة سياسية وخدعة يراد بهما انتقاء تدويل يناسب البعض، خلافاً لتدويل اخر يناسب البعض الاخر.

اشكاليات ثلاث

على جانب آخر تطرح مبادرة بكركي ودعوتها، على ثورة ١٧ تشرين وقواها تحديات او اشكاليات ثلاث:
الاشكالية الاولى هي ما هو موقف ثورة ١٧ تشرين، من حراك بكركي وكيف تتفاعل معه سلباً او ايجاباً؟، وبالتحديد كيف تنفصل عنه، لكي تستمر الثورة في مطالبها ومبادراتها مستقلة عن اي مرجعية دينية، وقادرة ان تحدد بشكل مستقل اهدافها وشعاراتها، وتقيم تحالفاتها ومبادراتها، وكيف تتصل بحراك بكركي، وتستفيد من مفاعيله في ظل مسالتين هامتين : الاولى تبني بكركي لأغلبية مطالب الثورة، وشعاراتها، بل ومطالبتها مجموعات الثورة بعدم السكوت في كل الملفات المطروحة، والمسألة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الاولى، وهي ان حركة بكركي اذا ما استمرت ستضعف السلطة الحاكمة وتنهكها، وستؤثر في سلوك الجيش والقضاء والاجهزة الامنية، بحيث ستضعف قدرتها على القمع والمواجهة مع الثوار وتظاهراتهم.

وأما الامر الثالث في هذه الاشكالية، فهي متعلقة ببعض قوى الثورة من اليسار التقليدي، التي تحصر خصومتها بقسم من الطبقة السياسية، وتحاول جاهدة تحييد حزب الله وتجنب الخصومة معه، تارة بتنزيهه عن الفساد، واخرى بحجة العداء لإسرائيل وضرورة ومقاومتها، ويطرح موقف بكركي الذي يحمل حزب الله المسؤولية الاولى عن الازمة، يطرح على هذه الفئة من الثورة تحدياً جدياً ومحرجاً للتعامل مع موقف بكركي والاستفادة منه.

الاشكالية الثانية هي امكانية تحلق جزء كبير من القوى السياسية المرتبطة بسلطة الفساد والفشل والارتهان للخارج، حول حركة بكركي في مشهد يعيد رسم انقسام ٨ و١٤ آذار، بما ينزع عن ثورة ١٧ تشرين طابعها الوطني العابر لهذا الانقسام، ويعيد تعويم جزء من الطبقة السياسية التي يتوجب اسقاطها، وعلاج هذه النقطة ان الوصل مع حراك بكركي لن يتعدى تقاطع اهداف ومبادرات، دون ان يتحول الى اي اطار تحالفي او جبهة سياسية، واصلاً بكركي لن تتحول الى جبهة سياسية او أن تقود ائتلاف احزاب، وبالتالي فان التعامل ايجاباً مع حراك بكركي لن يتحول الى انخراط في تحالف او جبهة قد تضم احزاباً من السلطة الفاسدة.

اما الاشكالية الثالثة فمتعلقة باعتبار مبدئي، يرتكز الى ان الثورة التي طالبت بالدولة المدنية وتجاوزت الطائفية وصولا في طروحات بعض مجموعاتها الى تبني العلمانية، فكيف تتعامل هذه الثورة ايجابا مع موقع ديني يمارس عملا سياسيا، فكيف يمكن ان تتعايش ممارسة المرجعية الدينية للسياسة باعلى درجاتها مع ثورة مدنية تريد بناء وترسيخ مفاهيم المواطنة الحديثة؟

الاستحقاق الثوري الملح هو تطوير الثورة وتنشيطها عبر اقامة قيادة سياسية جامعة واجندة واضحة

والنقاش هنا مطلوب ومشروع، الاّ ان حراك بكركي ليس متوجهاً لتحديد طبيعة الدولة علمانية او دينية او طائفية، بل ان النقاش يتركز بسؤال محدد؛ هل لدينا وطن له حدود ؛ جيوسياسية، جغرافية، جمركية، هل نحكم من داخل المؤسسات ام من خارجها؟ هل يعم وطننا سيادة قانون كل قانون واحتراما لدستور؟ هل تدار مؤسساتنا ومرافقنا بشكل طبيعي وطبقا لحدود المصلحة الوطنية العامة، هل تضمن سلطاتنا امن مجتمعنا ويؤمن القضاء حقوق شعبنا، هل لدينا دولة قائمة تستحق اسمها، عندها يصبح التدويل انتهاكا لهذه الدولة.

اما قضية رجال الدين وضرورة منعهم من التدخل في السياسة فهو امر مقبول، لكنه يجب ان يصدر عن من رفض اولا تدخل حسن نصرالله و غيره من مشايخ حزب الله في السياسة، ولمن لم ينتقد حزب الله المنظومة الدينية السياسية البحته، لا يكتسب انتقاده موقع البطريرك الديني اي مصداقية، لان الذي لا يرى عصا حزب الله في اعيننا لا يستطيع الشكوى من قشة البطريرك.

الثورة تبصُّر وادارة، قبل ان تكون فعاليات وحشوداً وحراك بكركي، لا يجب ان يكون بديلاً عن الثورة، او قيادة رديفة لها، لكن حراك بكركي سعي في الاتجاه الصحيح، وقد يضعف السلطة ويعزز مصداقية الثوار ويمدهم بزخم جديد، والاستحقاق الثوري الملح هو تطوير الثورة وتنشيطها عبر اقامة قيادة سياسية جامعة واجندة نضال واضحة.

السابق
لقمان سليم في بكركي..حضوره يُعرّي القاتل وسلاحه
التالي
«الإتحاد الماروني العالمي» يخاطب غوتيريس..رفع الوصاية الإيرانية عن لبنان وتنفيذ الـ1559