لبنان..ضحك أصفر في زمن أسود

في تَناقُضٍ مُدْهِشٍ تَمَرَّسَ به اللبنانيون، تغيب غالبية البرامج الكوميدية التي تعوّدوا متابعتها عن شاشاتهم وتختفي وجوه كوميدية تآلفوا معها منذ سنوات طوال، لـ «تجتاح» في المقابل النكات والمزحات والصور المركّبة الطريفة مواقع التواصل الاجتماعي مع كل حَدَثٍ يشهده لبنان مهما كان مأمعاً او أسود. فالضحك في زمن الضغوط الخانقة، اختفى عن مسارحه «الأصلية» وسكن منصّات أخرى، لكنه لم يغب أبداً عن يوميات اللبنانيين وكأنه سلاحهم الحيوي الذي به يواجهون أزمات حياتهم الكثيرة.

وتمطر السماء وتغرق الشوارع بالماء وتعْلق أرتال السيارات فيها مُحْتَجِزَةً الناس داخلها، فتجد «طوفاناً» من النكات الفورية تفيض بها مواقع التواصل على طريقة «الكوميديا السوداء» بإزاء أحوال البلد ودولته.

ويتراشق السياسيون بالاتهامات ويكيلون الشتائم لبعضهم البعض مهددين مصير البلد وحكومته، فلا يجد اللبنانيون إلا التنكيت حلاً يهربون به من قرف الواقع السياسي، متفوّقين بلمحات و«قفشات» ذكية على رداءة الأداء السياسي لمسؤوليهم.

وتصل حملة التطعيم ضد «كورونا» التي طال انتظارها إلى لبنان، وبدل ان يتهافت الناس على تسجيل أسمائهم يتسابقون على التهكم على بعض الأخطاء الحاصلة وتضخيمها وجعْلها مَضحكة للناس.

السياسيون، المشاهير، الوجوه الإعلامية والفنية، كلهم مادة دسمة لـ «سهام» التندّر والانتقاد الساخر واللاذع. لا كبير بينهم ولا شهير فالكل متساوون أمام عدالة التنكيت وإن كانت الأفضلية لمَن يرى فيهم الناس سبباً لبلواتهم الكثيرة أو رمزاً من رموز فضاوة البال السابقة.

السياسيون المشاهير الوجوه الإعلامية والفنية كلهم مادة دسمة لـ «سهام» التندّر والانتقاد الساخر واللاذع

هو «ضحك أسود»، نابع من قلوب مقهورة ويرى فيه الاختصاصيون النفسيون آلية دفاع يعتمدها اللبناني للهروب من حالة الإحباط التي يعيشها ولا يستطيع شيئاً حيالها، وللفرار من هول ما يعيشه ويراه حوله من أزماتٍ تبدأ بالسياسة ولا تنتهي بالانهيار المالي وتداعياته الاقتصادية والمعيشية في ضوء «تحليق» الأسعار مع الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار الذي يطرق باب عشرة آلاف ليرة.

إنه ضحك قاهِرٌ للقهر، يلجأ إليه اللبناني كآخِر الملاذ و«سلاح الاحتياط»، وليس للتعبير عن فرح وخفة ظلّ بل للتخفيف من التوتر النفسي ووسيلة لتهدئة القلق والخوف من الآتي الأعظم من غلاء وتدهور معيشي وغيرها من «كوابيس»، وربما على طريقة ما كان استشرفه الراحل وسيم طبارة في ثمانينات القرن الماضي في مسرحيته «اضحكوا قبل ما يغلى الضحك».

أما علم الاجتماع، فيرى أن النكتة هي «شيفرة» الذين لا يريدون الكشف عن رأيهم، أي حزب الغالبية في لبنان والتي تجد حرجاً او خوفاً في التعبير عن رأيها بشكل مباشر وصريح.

كوميديا غائبة عن الشاشات

الكوميدي ماريو باسيل يشرح هذه الظاهرة قائلاً: «اللبناني اليوم بحاجة الى الضحك أكثر من أي وقت ليخفف عن نفسه ثقل ما يعيشه من أهوال. الضحك هو دراما مدفوعة الى أقصى حد لها، إنها المُضْحِك المُبْكي الذي يجعل الناس يضحكون على مأساتهم ويهربون من واقعهم المرير بضحكة صفراء.

الوضع اليوم نتيجة جائحة»كورونا«والأزمة الاقتصادية لا يسمح بعرض مسرحيات، لكن كل مَن أصادفهم في الشارع يخبرونني عن شوقهم لاستعادة هذه الأجواء.

إنهم بحاجة الى المسرح والضحكة المشغولة لأن أكثر ما نراه حالياً على الشاشات هو تنمُّر وشتائم تهدف الى إضحاك الناس عن طريق السخرية التي تفتقر الى الهدف. الكوميديا الحقيقية هي مرآة تهدف إلى تكبير عيوب المجتمع بشكل كاريكاتوري بغية تسليط الضوء عليها و إصلاحها».

سابقاً يقول باسيل «كان الانتاج التلفزيوني الكوميدي يحتاج إلى تَضافُر عدة أدمغة لإعداده، وطاقات إنتاجية وكتابية وإخراجية ليَخْرج الى الجمهور بشكل راقٍ.

وكنا في لبنان سبّاقين الى هذا النوع من الكوميديا، ولكن حالياً لم يعد ثمة إنتاج تلفزيوني على هذا المستوى، كما بات صعباً تَناوُل مواضيع ضاحكة على الشاشة بشكل أسبوعي لأن مواقع التواصل تكون قد استهلكت الخبر وأحرقت الفكرة.

الكل بات ينكّت على السوشال ميديا وإن بمستويات نجاح مختلفة، ولذا يصبح من الصعب بعدها معاودة صوغ الفكرة على الشاشة وجعْلها مُضْحِكَة بشكل راق».

كوميديون جدد ولسان حال اللبنانيين «اضحكوا قبل ما يغلى الضحك»

مَن يراقب واقع الشاشات اللبنانية والواقع المسرحي في لبنان يلاحظ بشكل واضح غياب البرامج الكوميدية الشهيرة التي صنعت مجد هذه القنوات لسنوات طوال، وابتعاد الأسماء الكوميدية المعروفة مع فرقها عن المسارح، ما خلا قلة قليلة استطاعت ان تصمد رغم كل الأزمات لتكون متنفساً حقيقياً للشعب اللبناني.

… «ما في متلو»، «قربت تنحل»، «دمى قراطية» وغيرها، برامج كوميدية افتقدتها الشاشات لأسباب عدة، فوفق ما يخبرنا الإعلامي طوني خليفة «وحدها اليوم البرامج التي تستضيف أطباء يتكلمون عن جائحة»كورونا” هي التي تستقطب أعلى نِسَبِ مُشاهَدة بين الجمهور ويمكن للحلقات التي يكون فيها الطبيب معروفاً ومنتظَراً أن تنافس أي برنامج آخَر وتتفوّق عليه.

التشبث بالضحك الهارب

لكن رغم طغيان الهمّ الصحي والاقتصادي على يوميات اللبنانيين واستئثاره بتفكيرهم، تراهم يتشبثون بالحفاظ على الضحكة أكثر من أي وقت، إذ لم يَبْقَ لديهم سواها متنفساً في ضيق النَفَس الذي يكتم على صدورهم. ولذا بادرت بعض القنوات التلفزيونية الى تقديم أطباق كوميدية ضاحكة تمدّ اللبنانيين بجرعة من الضحك وتحسين المزاج، ينسون معها لفترة ساعة أو أكثر مصائبهم اليومية.

محطة LBCI تَجَرّأَتْ على كسْر حاجز الإحباط وقدّمت لجمهورها فرصة للضحك عشية كل ثلاثاء في برنامج «لهون وبس» مع الإعلامي الساخر هشام حداد الذي استطاع في عزّ اشتداد أزمة «كورونا» والحجْر المنزلي أن يفجّر ضحكات مدوية في كل بيت تكسر رتابة الحجر وتتحدّى الملل والإحباط، لتتحوّل محطةَ انتظارٍ أسبوعية يصبو إليها اللبنانيون بشوق.

ويحقّق برنامج «لهون وبس» نِسَب مُشاهَدة عالية جداً وفق ما تبيّنه شركات الإحصاء المحلية، ذلك أن مقدمه استطاع ان يشرّح الواقع اللبناني بكل تفاصيله ويقدمه بنكهة ساخرة تسلط الضوء على فداحة المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يعيشها لبنان.

محطة MTV من جهتها قدمت لجمهورها فقرات ضاحكة ضمن برنامج ترفيهي، وغاب عن برامجها عادل كرم الذي كان ركناً من أركان الكوميديا وأحد ألمع وجوهها، كما استراحتْ البرامج الغنائية والاستعراضية الكبرى لينصبّ اهتمام القناة على البرامج الإنسانية التي تحاكي وجع الناس.

ضحك سريع على منصات التواصل

لا شك في أن نجوماً كبار في الكوميديا باتوا بعيدين عن القنوات التلفزيونية، وانطفأ وهجُ برامجهم التي كانت تُضْحِك اللبنانيين، لكن هذا لم يُلْغِ ظهورَ فئة جديدة من الأسماء الكوميدية أطلت عبر مواقع التواصل الاجتماعي واستطاعت أن تقتطع لها مكاناً في عالم الكوميديا المحلية بعدما ارتكزت تعليقاتها على السخرية من الأوضاع الاجتماعية والمعيشية اللبنانية.

وباتت السوشيال ميديا بدورها مصدراً لإلهام هؤلاء تفتح المجال واسعاً أمامهم لانتقاء التصرفات والصور النافرة وتحويلها اسكتشات سريعة تضحك الجمهور.

فريد الخازن الذي يُعرف بـ «فريكس تيوب» اتخذ من عارضات الأزياء والمؤثرات المحليات والعالميات هدفاً له وصار يعيد تمثيل البوستات التي ينزلنها بطريقته الخاصة فنال متابعة عالية نتيجة ذلك، وصار اللبنانيون ينتظرون إعادة تمثيله ليوميات المشاهير وحتى لبعض من يومياتهم النافرة بشكل عام.

ومثل فريكس تيوب كثُر الساخرون على مواقع التواصل واستطاعوا جذب الكثير من المتابعين اللبنانيين الذين رأوا فيهم انعكاساً ضاحكاً مضخَّماً لواقعهم.

«عديلة» إحدى الشخصيات الطريفة على موقعي «تويتر» وإنستاغرام باتت ركناً راسخاً في فن السخرية، تسخر بشكل عام من الوضع الفني ومن وضعها الاجتماعي الخاص وما تعيشه يومياً في هذا البلد من صعوبات بحيث بات كل لبناني ولبنانية يجد فيها «فشة خلق» لكل الغضب المكبوت الذي يعتمل داخله نتيجة السترس الذي يعيشه مع كل خطوة يقوم بها في يومه.

نجوم الكوميديا الجدد

بعض هذه الوجوه بنت «مملكتها» الكوميدية الساخرة على يوتيوب وإنستاغرام ولم تستطع الانتقال إلى الشاشات أو انها لم تَلْقَ البريق ذاته حين فعلت، وقلّة منها نجحت في أن تكون نجوماً تلفزيونية كوميدية يتابعها جمهور التلفزيون العريض.

ولكن أمل طالب، البلعبكية الضاحكة التي شكلت ظاهرة في عالم الكوميديا، يتابع اللبنانيون الفيديوات الطريفة التي تنشرها على صفحاتها الخاصة كما يتابعونها على الشاشة بالشغف نفسه. «مهضومة بالفطرة» كما تقول عن نفسها، تنقل على الشاشة قصصاً تحصل معها في حياتها اليومية بلهجة بعلبكية مضخّمة أَحَبَّها الجمهور.

جاد بو كرم، نادي ابو شبكة، ايلي شمالي، اديل جمال الدين وعباس جعفر، أسماء أَحَبَّها اللبنانيون على مواقع التواصل كما على الشاشات لأنها قريبة منهم، تحكي واقعهم كأنها فرد من أفراد عائلتهم بعيداً من أي فوقية بل بنجوميةِ «القريبين من القلب».

إقرأ أيضاً: بالفيديو: رياض قبيسي في رد عنيف على حسين الحاج حسن..ضائع بين الدولة والدويلة!

نسأل الكوميدي المتمرس في المسرح والتلفزيون ماريو باسيل إذا كان وهج نجوم مواقع التواصل طغى على وهج الكوميديين التقليديين في لبنان؟ فيجيب: «لكلٍّ ملعبه، وهذا لا يلغي ذاك. نجوم السوشيال ميديا الذين لمعوا على المنصات المختلفة، لم يلمعوا بالنسبة ذاتها على الشاشات أو خشبة المسرح. فهؤلاء يتمتعون بالطرافة الشخصية وقادرون على تقديم نكتة سريعة تُرْضي متصفح مواقع التواصل الذي ينتقل بسرعة بين بوست وآخَر، أما كوميديا التلفزيون والمسرح فإنها تحتاج الى بناء متين بحيث تُقدَّم النكتة بأسلوب سردي متصاعد يجعل الجمهور يتابع مراحلها. وهي تحتاج إلى ماكينة متكاملة، من فريق إعداد ومُخْرِج وممثلين حتى تكتمل عناصرها وهذا الأمر هو ما بتنا نفتقده حالياً».

نسأل ماريو إذا كان عصر الكوميديا المتينة في لبنان قد انتهى أم يمكن أن يستعاد زمن المسرحيات الكوميدية ونجوم الكوميديا الكبار؟

فيردّ: «اللبناني بحاجة دائماً الى الضحك والى المسرحيات الضاحكة التي باتت جزءاً من ثقافته. ولكن تَغَيَّرَ أسلوب الضحك وطريقته، وهذا التغيير أمر طبيعي، فالضحك يتطور مع الوقت كما تتطور الثقافة العامة والموسيقى والأدب والرقص، ولكنه حتماً لا يمكن أن يغيب بل يطلّ بأسلوب ومواضيع مختلفة».

وتأكيداً على ذلك يقول باسيل إن لديه مسرحية جاهزة «تحتاج لى بعض التعديل لتواكب الأحداث وتنتظر عودة الحياة إلى طبيعتها، لكن المشكلة ليست في إبداع الأفكار الكوميدية ولا في رغبة اللبنانيين بالاستمتاع بها، بل في الانتاج والأزمة الاقتصادية التي تحدّ من قدرة الناس على حضور المسرح».

السابق
الجسم الطبي يَخسر جولاته أمام «الكورونا» ..والتهريب يُنعش «الرئة السورية» !
التالي
بري يلوّح بورقة الانتخابات الفرعية: مناورة أم رسالة؟!