حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: «عودة الثقة».. بعد العدالة أم الثأر!؟

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

ينبري طيف من خبراء المال والاقتصاد والادارة، وبعض الاغنياء اصحاب الحوانيت والمصالح، الذين يطلقون على أنفسهم رجال اعمال واقتصاديين، الى القول في كل مناسبة أو ندوة أو حوار، ” أن المدخل الحقيقي لأول خطوة في مسيرة وقف الانهيار، وعودة لبنان الى مسيرة التعافي المالي والاقتصادي، هي “عودة الثقة”.

اقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: المبادرة الفرنسية.. أزمة استشراق أم غياب العصا والجزرة وصفارة الحكم

ولعل عودة الثقة تلك، تتطلب أن يتعب الناس من التظاهرات والحراك، وان لا تستجيب السلطة لأي مطلب من مطالبهم، وأن يجري محاصرتهم بخطر الكورونا من جهة أولى، ويتم اخضاعهم بشظف العيش وغلاء الاسعار وتفاقم نسب البطالة، وتقليص القيمة الشرائية لأجورهم من جهة ثانية، على وقع هذه التطورات تتحقق “عودة الثقة” بتوافق اطراف السلطة السياسية ووقف صراعاتهم!.

المدخل الحقيقي لأول خطوة في مسيرة وقف الانهيار هي “عودة الثقة”

ذلك لم تفهم احزاب المنظومة السلطوية من المبادرة الفرنسية الا مسعى تصالحي يعيد للمنظومة وحدتها ويحل في قلوب رموزها عواطف التضامن والتكافل فيما بينها.

فهل الأمر على هذه الصورة؟ وهل حدث فقدان الثقة تلك بفعل كارثة طبيعية، أو خلل فلكي أصاب الكوكب، أو وباء نفسي جماعي، ضرب جموع اللبنانيين ففقدوا ثقتهم بقيادات أحزابهم الطائفية بعد أن هتفوا لزعمائهم، “بالروح بالدم نفديك يا زعيم” طوال عشرات السنين الماضية!؟

وهل يكون الحل لهذه المعضلة هو مداواة هواجس اللبنانيين ومخاوفهم برواية قصص الأطفال لهم، وإبعاد تأثيرات الأفلاك وسوء الطالع، بجهد مكثف من السحرة والمنجمين، أو باللجوء لجلسات علاج جماعية لعلماء نفس أفذاذ، يعيدون لشعب لبنان ثقته بحكامه!؟
فأي ثقة فقدت، وبمن فقدت؟ ولماذا فقدت ومن أُصيب بفقدانِها، وبين أيّ فريق وفريق جرى هذا الانهيار وبفعل أيّ عوامل أو أسباب!؟

عودة الثقة تتطلب أن يتعب الناس من التظاهرات والحراك وان لا تستجيب السلطة

بدايةً لكل محرري وصفة “استعادة الثقة” ثمة أمرٌ بديهيٌ لا بد من تأكيده لهؤلاء الخبراء فوق العادة، وهو أن اللبنانيين جميعاً بكل طوائِفهم ومذاهبِهم وطبقاتِهم الاجتماعية، وبكل مهنهِم وأعمالهِم وحرفهِم ووظائفهِم، كما بكل مستوياتهم الثقافية، جامعيةً كانتْ أم ثانوية، تكميليةً أو أساسية، وبكل من تبقى من أميين غير متعلمين، سواءَ كانوا من سكانِ المُدنِ أو الأرياف البعيدة في القرى الجميلة أو الدساكر الواقعة في هوامش الجبال والأصقاع البعيدة، كل هؤلاء جميعا وبنسبة تفوق ٩٩% وأكثر، يتمتعون بذاكرة نشيطة لم يفقدوها لا مرضاً ولا برماً، لا خوفاً ولا مللاً، يتذكرون جميعا ما حفلت به المنابر والندوات والخطابات كلها؛ من تأمين ٩٠٠ الف وظيفة بمجرد انتهاء انتخابات ٢٠١٨ ، الى رواية متكررة سنوياً على مدى عشرين سنة، عن كهرباء تأتي ولا تنقطع ٢٤/٢٤ ساعة يوميا، كما أنهم لن ينسوا ذلك <الأب الصالح> الذي أهدى طِفلَهُ قصةَ تَحويلِ لبنانَ الى دولة نفطية، يجتازها المترو السريع بين عاصمتي لبنان الاولى والثانية، ويستذكرون وهم محشورين في غرف الحجر من الجائحة، مساجلات ومداخلات حضروها، يتفاصح فيها فرسانها لتشريح الفساد وكشف المتورطين به.

اللبنانيون جميعاً يتمتعون بذاكرة نشيطة لم يفقدوها لا مرضاً ولا برماً


وقد بلغت تلك الموجة من منازلة الفساد ودحره، أن أحد الاحزاب قسم نشاطه كله الى نصفين؛ نصف حشد فيه رجال الله ليحارب كل الدنيا في نصف دول الكوكب، ويحقق الانتصار تلو الآخر في كل معركة خاضها، اما النصف الثاني من كفاءاته فقد خصصه لكشف ملفات الفساد واجتثاث المفسدين من جذورهم، وتطهير الارض من رجسهم.

كل هؤلاء الناس، يستعيدون الى أذهانهم، صولات لجنة المال البرلمانية في ضبط مصاريف الدولة ووقف الهدر في إنفاقها، وتخفيض عجوزات ميزانياتها، يتذكرون طبعا الطلة البهية لحاكم مصرف لبنان يحصد الجوائز العالمية التي تقدم له في كل عاصمة، على حسن إدارته لنظامنا المصرفي العريق والفريد، ويستعيدون كل كلمة قالها في تأكيد قوة الليرة الوطنية وثبات قيمتها، ويحفظون عن ظهر قلب عدد المرات التي بدد فيها رئيس جمعية المصارف ومدرائها، مخاوف المودعين على ودائعهم، في كل مرة قامت وكالات تصنيف الإئتمان المالي العالمية بخفض مرتبة لبنان المالية وقدرته على الايفاء بديونه.

هؤلاء جميعا المخدوعون حتى الجوع والفقر والذعر الموشوم على جباهم من لؤم غد يأتي، هؤلاء واطفالهم، الذين حفظوا إعلانات المصارف، من أكبرهم حيث “راحة البال” الى “مصرفك مدى الحياة”، الى ثالث أوهمك انه “عايش معك بيفهم عليك”، او رابع معه “قُدرتُك تكبر” وخامس إدعى انه “معك لأبعد الحدود”، أما السادس فقد أدى إلحاحَهُ بسؤالك بشكلٍ شبه يومي ” كيف فينا نساعد” الى أن يطلب منك طفلك زيارة هذا البنك لتلبية كل هداياه.

خلال سنتين جرى تهريب ما لا يقل عن ٤٠ مليار$ فيما جرى الاستيلاء على الودائع المتبقية


تحت ستار خادع من الوعود الوردية، والاكاذيب المتضخمة، والتطمينات الجوفاء حول وضع مالي كان ينهار بشكل يومي ومستمر، قامت منظومة الفشل والفساد والارتهان الى الخارج، بكل فروعها الميليشياوية والطائفية والمصرفية، بسرقة شعب بكامله والكذب عليه، وخلال سنتين كاملتين امتدت من منتصف سنة ٢٠١٨ حتى منتصف سنة ٢٠٢٠ جرى تهريب ما لا يقل عن ٤٠ مليار$ اميركي، أخرجها أصحاب السلطة والقرار، في رأس السلطة السياسية والادارة المصرفية، فيما جرى الاستيلاء على ودائع بقية اللبنانيين والعرب والمغتربين.

يضاف الى كل ذلك مليارات اخرى جنتها منظومة الفساد ذاتها، خلال عقدين من الزمن، وعبر عمليات صرف نفوذ وتلاعب بالمناقصات والتعهدات، واعمال تبييض الاموال الناتجة عن نشاطات غير شرعية، في لبنان والخارج، وعن انتهاك البيئة وسرقة الرمول والشواطئ، والتي تفوق اقل تقديراتها ال ١٢٠ مليار$ اميركي، وتم إيداعها بحسابات مالية في ملاذات آمنه خارج لبنان ونظامه المصرفي، وأما قرار المجلس النيابي و”توصيته” بإخضاع مصرف لبنان وكل الوزارات والمؤسسات والصناديق للتدقيق المحاسبي الجنائي، فلا قيمة قانونية له ولا صفة الزامية فيه، وهدفه قيد جريمة اسقاط التدقيق الجنائي بعهدة مجهول!.

الناس هؤلاء، أي عموم اللبنانيين، لم يفقدوا ذاكراتهم، ولم يصابوا بأمراض نسيان تاريخ مخز من التضليل والرياء والاحتيال، انهم طيبون لكنهم ليسوا سذجا أو اغبياء.!

في ١٧ تشرين ٢٠١٩ صحا اللبنانيون على جريمة إفقارهم وسرقتهم ونهب جنى أعمارهم

في ١٧ تشرين ٢٠١٩ صحا اللبنانيون على جريمة إفقارهم وسرقتهم ونهب جنى أعمارهم، وتبديد مدخراتهم وصناديق ضماناتهم الصحية والتقاعدية، وتخريب أعمالهم وتجاراتهم ومصالحهم، انتفضوا واعتبروا ان اكتشاف الجريمة والسرقة كاف لوقف الجريمة وانقطاع حبل الخداع، والذهاب الى حلول وسط تداوي الجراحات، تقلل الخسائر وتوزعها بشكل عادل ومنصف، لكن المنظومة الفاسدة، اعتبرت بعد ان ظهر عري أخلاقها وفساد قيَمِها، اعتبرت غضب الشارع وحراكه، فرصة اضافية لتمارس مزيدا من النهب والسرقة، ولتعتبر الانهيار الاقتصادي والفقر القادم الى كل بيت، سلاحا بيدها، تُطوّع بها ثورة الناس وتُخضِعهم.

لم تتنازل قيد انملة، لم تنفذ مطلبا، لم تنشأ اصلاحاً، لم تلجأ الى أي تدبير لتخفيف الأزمة، لضبط الفساد، لتنشيط القضاء، أو لتعزيز آليات المساءلة، لكبح جماح المصارف وإصرارهم على استغلال الأزمة، لمزيد من تهريب الودائع لمن تريد، واذلال بقية المودعين ومعاملتهم كمتسولين لأموالهم أمام أبوابها.

لم يقتصر فجور أولي أمر لبنان ووقاحتهم في استغلال الأزمة والاستفادة من جراحاتها وعذاباتها، بل أمعن هؤلاء بإهانة الناس وتخوينهم وانتهاك كراماتهم، تارة بتهمة السفارات وطوراً باستغبائهم واتهامهم بالسذاجة والانقياد الأعمى الى أجندات خارجية، كما لجأت النيابات العامة الى ملاحقة الثوار والناشطين واستدعائهم الى دوائر التحقيق لترهيبهم واسكاتهم، فيما بلغ صلف امراء الحرب الذين يتربعون في كراسي الدولة درجة ارسال شبيحتهم لفقىء عيون المتظاهرين و اقتلاعها من وجوههم.

اما ان يقضي الشعب عليكم واما ان تقضوا على الشعب بأكمله

لم تتركوا مكانا لأنصاف الحلول، لإقتسام الخسائر والتآزر الوطني الجماعي في تحمل أعباء الأزمة، تريدون إنقاذ منظومتكم السلطوية الفاسدة، دون إنقاذ شعب لبنان، بل تريدون لهذا الشعب أن يُسحقَ تحت أنياب الانهيار والفقر والبطالة، علّه يعودَ للهتاف لكم!

نعم لقد حددتم قوانين اللعبة بوضوح وفجاجة : اما ان يقضي الشعب عليكم واما ان تقضوا على الشعب بأكمله، واستقرت المعادلة واضحة بان انقاذ شعب لبنان يقتضي اسقاط منظومة السلطة واحزابها، وعقاب الشعب لكم، آت من حيث لا تحسبون، وأعواد المشانق منصوبة غداً لا محالة ولو تأخرت الى حين. فلا ثقة تعود إلاّ بالعدالة أو الثأر، وإنّ غدا لناظرِهِ لقريب.

السابق
«ريتز بغداد»… قسوة الفساد العراقي
التالي
«حزب الله» يتوعّد.. هكذا علّق على اغتيال فخري زاده!