«مشروع روجرز» أميركي جديد بين لبنان وإسرائيل

ترسيم الحدود البحرية

بدت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية “فقط” بين لبنان وإسرائيل بوساطة ورعاية أميركية واستضافة شكلية من الأمم المتحدة حافلة بالدلالات التاريخية والسياسية، حيث فرضت إسرائيل من حيث المبدأ وبدعم أميركي شروطها ومحدداتها كلها والمتضمنة إجراء مفاوضات مباشرة دون مرجعيات دولية وقانونية، ودون الاتفاق أولاً حول الحدود البرية، بينما قبل لبنان أو للدقة الحشد الشعبي الحاكم – حزب الله سابقاً – كل ما كان يرفضه خلال السنوات العشرة الأخيرة، وعموماً يشبه مشروع مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر للمفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل مشروع وزير الخارجية الأميركي السابق مايكل روجرز للمفاوضات  المباشرة بين مصر وإسرائيل بعد نكبة حزيران/ يونيو 1967، ورغم أننا لا نتحدث عن التطبيع بصورته المباشرة في الحالة اللبنانية إلا أننا أمام جزء من النشاط الدبلوماسي العام لإدارة الرئيس دونالد ترامب الذي نجح في إنجاز اتفاقات التطبيع بين الإمارات والبحرين من جهة. وإسرائيل من جهة أخرى، علماً أن النشاط الأميركي متواصل لجلب دول أخرى إلى المسيرة التطبيعية سيئة الصيت.

اقرأ أيضاً: طهران قالت «نعم» للمفاوضات وبيان الفجر للثنائي رفع للعتب!

لا بد من الانتباه إلى أننا نتحدث عن مفاوضات لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، ويتعلق الأمر تحديداً بالبلوك رقم 9 الغني بالثروات الطبيعية، والذي لا تملك إسرائيل حقوقا فيه، ولذلك سعت دوماً لتقاسمه مع أفضلية نسبية لصالح لبنان، وهو ما رفضه الأخير لعدة اعتبارات سياسية وقانونية.

رفض لبنان طوال عشر سنوات وتحديداً خلال الثلاث الأخيرة التي زادت فيها جهود إدارة دونالد ترامب فكرة التفاوض المباشر مع إسرائيل، كما الوساطة الأميركية نفسها وأصرّ محقاً على الرعاية الحصرية للأمم المتحدة مع اعتبار الشرعية الدولية، وتحديداً قانون البحار 1982 المعتمد لحل لنزاعات المماثلة أساساً للتفاوض غير المباشر، كما رفض فكرة التقاسم التي طرحتها تل أبيب وفق الأمر الواقع، وأصر على حقوقه كاملة بما في ذلك ربط ترسيم الحدود البحرية بالحدود البرية وفق المنطق القانوني والواقعي والطبيعي الذي يقول أن الحدود البحرية هي انعكاس أو امتداد للحدود البرية يين الدول.

من خلال مبادرة مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر قبل لبنان أو للدقة الحشد الشعبي المتسلط والمتنفذ – حزب الله سابقاً – كل ما رفضه سابقاً، حيث أننا أمام مفاوضات لبنانية إسرائيلية مباشرة برعاية ووساطة أميركية حصرية وحضور دولي شكلي، بينما سيتولى شينكر شخصياً إدارة المفاوضات دون تدخل أممي ولا حديث طبعاً عن مرجعيات قانونية ملزمة وبالتأكيد لا نقاش عن ترسيم الحدود البرية مسبقاً وإنما يمكن النظر في الأمر فيما بعد دون تعهد إسرائيلي أو ضمان أميركي لكون الواقع البري الحالي في صالح إسرائيل. وللمفارقة فإن حزب الله أيضاً غير متحمس لذلك – إلا إعلامياً – بسبب مزارع شبعا حجة المقاومة أو ورقة التوت الأخيرة بالنسبة له، والتي يعتبرها القانون الدولي أرضا سورية محتلة تنطبق

عليها قرارات مجلس الأمن 242 و338، علماً أن نظام الأسد رفض ويرفض من حيث المبدأ. فكرة ترسيم الحدود مع لبنان ورفض إرسال وثيقة اعتراف بلبنانية المزارع إلى الأمم المتحدة، كما طالبت الحكومات اللبنانية لسنوات.

قدّم لبنان التنازلات الاستراتيجية السابقة بعد مساع أميركية مكثفة قادها ديفيد شينكر وتحديداً في الشهور الأخيرة إثر وصول الأوضاع فيه إلى حافة الانهيار وعلى كل المستويات، وبدا المشروع الأميركي الجديد مشابها لمشروع وزير الخارجية السابق ويليام روجرز مطلع سبعينيات القرن الماضي – حزيران/ يونيو 1970 – الذي وضع عملياً أسس التفاوض والتطبيع العربي الإسرائيلي فيما بعد، بما في ذلك ما يعرف بحلّ الدولتين في فلسطين الذي قزّمها إلى الضفة الغربية وغزة، وبما يعادل خمس مساحتها التاريخية فقط.

“مشروع روجرز” كان تحدث عن وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل والتفاوض المباشر تنفيذاً للقرار الأممي 242، وجرى قبول المشروع فعلاً من قبل الدولتين، حيث تم الالتزام بوقف إطلاق النار وإنهاء حرب الاستنزاف المرهقة لإسرائيل التي رفضت التفاوض فيما بعد لكونها سعت أساساً لوقف الحرب التي استنزفتها ولم ترَ داعياً لتقديم أي تنازلات أو الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب حزيران/ يونيو 1967.

قبول المشروع بحد ذاته كان تعبيرا عن ضعف النظام المصري ورغبته في البقاء بالسلطة بأي ثمن وإخفاء أثار نكبة حزيران الهائلة وتضمن اعترافاً بإسرائيل وموافقة على التفاوض المباشر معها تجاوزاً لمؤتمر الخرطوم ولاءاته الشهيرة الثلاث – لا صلح لا اعتراف لا تفاوض – ولا شك أن المشروع وضع بذور وأسس التفاوض العربي الإسرائيلي فيما بعد وفق القرار 242 الذي كان بحد ذاته أحد تعبيرات نكبة حزيران.

من هذه الزاوية تحديداً يشبه مشروع شينكر مشروع روجرز لكون لبنان في حالة ضعف وقدم كل التنازلات المطلوبة منه ووافق على التفاوض وفق كامل الشروط الأميركية الإسرائيلية التي رفضها سابقاً.

طبعاً استغل ترامب الموافقة اللبنانية والانخراط في المفاوضات كدليل على نجاح سياساته وإنجاز ما عجزت عنه الإدارات السابقة والمتمثل بجلب لبنان للتفاوض المباشر وفق شروط ومصالح إسرائيل، ودون أي تنازل منها.

أوصل الحشد الشعبي لبنان إلى حافة الانهيار مع هيمنته التامة على السلطة وتحطيمه الاقتصاد بركائزه الرئيسية التاريخية الثلاث السياحة والبنوك وتحويلات المغتربين، ثم أصرّ على التدخلات الخارجية في الدول العربية خدمة للمشروع الإيراني الاستعماري، وتمسك بسلاحه في الداخل وبالغ في تهديد إسرائيل للتغطية على سياسته الإقليمية المدمرة ما منع دول العالم من تقديم مساعدات اقتصادية له، وأفشل مبادرة أو مؤتمر سيدر الاقتصادي 2018، ثم المبادرة الفرنسية الأخيرة – على علاّتها – وبعد انفجار أو بالأحرى كارثة المرفأ التي يتحمل مسؤوليتها مباشرة أو غير مباشرة، بات البلد منهاراً تماماً، علماً أنه كان تحول إلى دولة فاشلة حتى قبل الانفجار، كما أقرّ محقاً وزير الخارجية المستقيل ناصيف حتي.

لذلك كله وافق الحشد الشعبي على المشروع الأميركي للمفاوضات المباشرة مع إسرائيل دون شروط مقابل البقاء في السلطة واستغلال الثروات اللبنانية حتى مع التنازل لإسرائيل عن جزء منها لإنعاش الخزينة والدولة المتهاوية تحت سلطته الكاملة.

قبول مبادرة شينكر؛ أكد طبعاً هيمنة الحشد الشعبي الكاملة على الدولة وقرارها وتجاوز الدستور واتفاق الطائف حيث تصرف بصفته صاحب القرار الحصري وبدا ذراعه أو قناعه السياسي نبيه بري وكأنه رأس السلطة التنفيذية لا التشريعية، وتم توكيل الرئيس الفخري “الصوري” ميشال عون بالتفاوض في تجاوز آخر للدستور الذي يجبر الرئيس على التشاور والتنسيق مع رئيس الحكومة المفترض أن يدافع أمام البرلمان عن أي اتفاق محتمل مع إسرائيل.

الحشد افتعل معارك وهمية لإثارة الغبار ولفت الانتباه عن جوهر المشهد، لذلك اعترض على تركيبة الوفد المفاوض بحجة تضمنه مدنيين، رغم أن هذا لا يقدم ولا يؤخر لكون التفاوض يجري بين خبراء تكنوقراط في كل الأحوال ولا فرق جوهري هنا بين عسكريين ومدنيين.

رفض الحشد كذلك التقاط الصورة التذكارية للوفود المتفاوضة، كان أيضاً بغرض تحقيق انتصار وهمي ولفت الانتباه عما جرى لكونها شكلية لا تنال أو تؤثر على جوهر المفاوضات والأهداف المتوخاة منها.

في كل الأحوال ستخلق المفاوضات واقعا جديدا وقد تتطور لتطول ملفات وقضايا أخرى متعلقة بالحدود والنفط والغاز وربما تكون حقول مشتركة أو – حتى نقل مشترك للطاقة من قبل الشركات الأجنبية المكلفة بالتنقيب. وأهم من ذلك كله أنها سترسخ التهدئة الفعلية مع إسرائيل في المنطقة بحراً وبرّاً وسيكون سلاح الحشد الشعبي موجهاً فقط لصدور اللبنانيين والثائرين العرب في وجه أنظمة الاستبداد والفساد المتحالف معها خدمة لإيران ومشروعها الاستعماري في سوريا والعراق واليمن.

قال الشهيد غسان كنفاني “إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية”، ولكن للأسف العكس حصل بعد نكبة حزيران/ يونيو 1967، لم يتغير الفاشلون ولكنهم غيّروا القضية عبر القبول بقرار 242 الذي اعترف بإسرائيل وقبل بدولة فلسطينية على خمس أراضي فلسطين التاريخية، وهو نفس ما فعله الحشد الشعبي بعد تحويله لبنان إلى دولة فاشلة ثم قبوله التفاوض المباشر مع إسرائيل والتنازل مسبقاً عن الحقوق ومكامن القوة التفاوضية مقابل بقاء سلطته على بلد منهك ومدمر.

السابق
مجلس النواب جدّد «مطبخه» التشريعي.. وبري ينتقد «دولرة» الليرة!
التالي
الحريري يردّ على «الأخبار».. هل من أموال إماراتيّة إلى «المستقبل»؟!