ليلة القبض على لوكاشينكو

بوتين ولوكاشينكو

المسافة من الحدود البيلاروسية إلى العاصمة الروسية موسكو أو عاصمة القياصرة بطرسبرغ قرابة 500 كلم، وفي التقديرات الاستراتيجية تعتبر هذه المسافة ضمن أولويات الأمن القومي الروسي، ما يعني أن أي خلل على الحدود البيلاروسية المحاذية لروسيا سيشكل تهديدا مباشرا لأمن العاصمتين، وهذا ما دفع الكرملين إلى الإسراع في اتخاذ قراراته ونقل خطوطه الحمراء من الحدود الروسية البيلاروسية إلى الحدود البيلاروسية البولندية باعتبارها أقرب نقطة بين الناتو وموسكو.

مما لا شك فيه أن الثورة البيلاروسية زادت من الأعباء السياسية والاستراتيجية والاقتصادية على موسكو ومينسك وبروكسل، لكنها فرضت على موسكو تحديات عسكرية هائلة، حتى لو لجأت موسكو ومينسك إلى خيار الاتحاد مخرجا لأزمة نظام ألكسندر لوكاشينكو، إلا أن الاتفاق على مساحة أمنية موحدة بين البلدين ستتيح للكرملين فرصة لإعادة تموضعه عسكريا في المجال الحيوي السوفياتي وبناء قواعد استراتيجية في وسط أوروبا ونشر دباباته على الحدود مع بولندا الأمر الذي سيؤدي إلى توترات أمنية مستقبلا مع الناتو.

أتاحت الأزمة لموسكو فرصة لإعادة الاعتبار لمعاهدة الاتحاد بين البلدين والتي دخلت حيّز التنفيذ في 26 يناير عام 2000 وتنص على: “يتبنّى اتحاد روسيا وبيلاروسيا سياسات خارجية وأمنية ودفاعية واحدة، وله ميزانية مشتركة، وسياسة مالية ائتمانية وضريبية موحدة، وتعرفة جمركية موحدة، ومنظومتا طاقة واتصالات ومواصلات واحدة. وتحتفظ كل من بيلاروسيا وروسيا ضمن الاتحاد بسيادتها ووحدة أراضيها وأجهزة دولتها ودستورها وعلمها وشعارها”.

مما لا شك فيه أن الثورة البيلاروسية زادت من الأعباء السياسية والاستراتيجية والاقتصادية على موسكو ومينسك وبروكسل، لكنها فرضت على موسكو تحديات عسكرية هائلة

في لقاء سوتشي الذي جرى في 15 من الشهر الحالي بين فلاديمير بوتين ولوكاشينكو أكد الرئيس الروسي على أن “بيلاروسيا تبقى الحليف الأقرب إلينا وستظل بلادنا ملتزمة بجميع اتفاقيات التعاون مع بيلاروسيا، بما في ذلك معاهدة منظمة الأمن الجماعي ودولة الاتحاد”، وهي الفكرة أو المشروع الذي كان يؤرق لوكاشينكو منذ سنوات، وحاول مرارا التنكر له ولم يتردد في بعض الأحيان بالتلويح بأنه مستعد للاستعانة بالناتو بهدف وضع حد لما كان يسميه سابقا الأطماع الروسية الدائمة.

إقرأ أيضاً: الكاظمي يحاكي تطلعات الثورة العراقية.. إطلاق العنان لملاحقة الفاسدين!

ففي السنوات الأربعة الأخيرة اتسعت الهوة ما بين الرجلين، واختلفا في عدة ملفات من الشراكة في الاتحاد الأوروآسياوي إلى أسعار الطاقة حتى العلاقة مع أوروبا والناتو، وتراكمت الخلافات عندما طالبت مينسك بتخفيض أسعار الطاقة وفقا لأسعار السوق المحلية الروسية، وهذا ما رفضته حينها موسكو التي اعتبرت أن سعر 123 دولار لكل ألف ليتر غاز مكعب عادل فيما تدفع برلين وعواصم أوروبية أخرى ما يقارب 250 دولار على نفس الكمية. وهذه ما استفز لكوكاشنكو وقال في شهر مارس 2009 في اجتماع حكومي أنه “نحن في وضع يتعين علينا فيه تغيير اتجاهنا طوال الوقت، لأننا نقع في وسط أوروبا”.

لم يتوقف لوكاشينكو حينها عند هذا الحد من الاستفزازات بل ذهب بعيدا في الحديث عن ضرورة تطوير العلاقة مع حلف شمال الأطلسي حيث قال إن “السعي لإقامة علاقات مع الأطلسي على أساس الاحترام المتبادل، من شأنه أن يساعد في تعزيز أمن بلادنا”.

لم يتوقف لوكاشينكو حينها عند هذا الحد من الاستفزازات بل ذهب بعيدا في الحديث عن ضرورة تطوير العلاقة مع حلف شمال الأطلسي

منذ 10 أغسطس الماضي انتهت لعبة لوكاشينكو في ابتزاز موسكو وانتزاع تنازلات منها تحت تهديد اقتراب مينسك أكثر من أوروبا. وانقلب السحر على الساحر، فقد فرضت التظاهرات التي تهدد نظامه عليه أن يصف روسيا بالأخ الأكبر وبأن التقارب والتكامل مع روسيا هو مصلحة عليا لبلاده، ولكن ما عرضه بوتين في لقائه مع لوكاشينكو وما يناور الأخير من أجله في هذه المرحلة سيضع سيادة بيلاروسيا على المحك إذا التزام لوكاشينكو بخارطة الطريق التي وضعها بوتين للحل، والتي ستجعل مصير بيلاروسيا لا يختلف عن مصير جزيرة القرم. 

لكن هذا الخيار قد يؤدي إلى قرار عزل أوروبي لبيلاروسيا، وهو ما سيزيد أعباء موسكو إضافة إلى ردة الفعل الشعبية الرافضة لهذا الضم ما يقد يؤدي إلى مواجهة بين الشعب وموسكو.

وعليه بالرغم من أن موسكو سارعت إلى تعزيز قبضتها على نظام لوكاشينكو لكن الثقة بالرئيس البيلاروسي يصعب ترميمها وحتى لو تم تقييده باتفاقيات وشروط صعبة فإن موسكو ستجد نفسها مستقبلا أمام تحدي استعادة لوكاشينكو لدوره بعد إعادة تعزيز سلطته، وما يشجعه على التفلت من التزاماته وإعادة وصل خيوطه السابقة مع أوروبا. في سوتشي ألقت موسكو القبض على لوكاشينكو لكنها هل ستبقيه حبيس إرادتها أو أن هناك فاعل آخر سيفرض رأيه على الطرفين.

السابق
الكاظمي يحاكي تطلعات الثورة العراقية.. إطلاق العنان لملاحقة الفاسدين!
التالي
لماذا على لبنان أن ينتظر ماكرون حتى الأحد المقبل؟