عصا العقوبات و«حكومة المهمة»!

ماكرون خلال لقائه الرؤساء الثلاثة في بعبدا

قبل أن تهبط طائرة الرئيس إيمانويل ماكرون في بغداد يوم الأربعاء الماضي، بعد زيارته الثانية العاصفة سياسياً إلى بيروت، كان قد وصل تصريح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الذي قال للمسؤولين وللمنظومة السياسية الفاسدة في بيروت: «إنه لم يعد ممكناً أن يستمر الوضع كما كان سابقاً»، محذراً من أنه يجب الانخراط في الإصلاح فوراً.
هذا الكلام وأكثر منه قسوة وأشد سخونة، كان المسؤولون في بيروت قد سمعوه تكراراً من الرئيس الفرنسي، سواء عندما تحدث إلى الصحافيين، أو وهو يخاطب هؤلاء السياسيين والمسؤولين مباشرة، خلال زيارته الثانية يوم الاثنين الماضي، للمشاركة في المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير عام 1920.

عصا ماكرون الغليظة

وصل ماكرون عملياً وكأنه يحمل في يده اليمنى، جزرة تتعهد بإمكان الحصول على الدعم والمساعدات عبر إحياء «مؤتمر سيدر»، وتحريك صندوق النقد الدولي استطراداً، إضافة إلى وعد بتنظيم فرنسا ورعايتها، لمؤتمر دولي جديد لمساعدة لبنان ومنعه من الانهيار، لكنه حمل في اليسرى عصا غليظة لم يتوانَ عن التلويح بها تكراراً بعد وصوله، حتى قبل أن يهبط في بيروت، عندما حذّر المسؤولين من أنهم إن لم ينخرطوا فوراً في التغيير العميق، وفي تنفيذ الإصلاحات الجادة، فإنهم سيتعرضون إلى مروحة من العقوبات المؤلمة، لا تقتصر على وقف المساعدات والدعم فحسب، بل ستفرض عقوبات على ودائع السياسيين وأصولهم، وسيمنعون من السفر إلى دول الغرب.

إقرأ أيضاً: ماكرون ـ «حزب الله»: الدين كغطاء للخبث السياسي !

كان واضحاً أن رسائل التحذير هذه وصلت إلى بيروت قبل ماكرون، سواء عبر الصحافة الفرنسية، وعبر التقارير الدبلوماسية، التي دفعت نواباً للاتصال بمصادرهم في باريس، مستفسرين عن مدى جدية ما نشر عن لوائح اسمية لمسؤولين من رأس الهرم، ونزولاً، وأنهم قد يتعرضون لعقوبات قاسية، ففهموا أن الأمر جاد، وأن هناك تعاوناً فرنسياً أميركياً في هذا السياق، وهكذا ربما لم يكن مستغرباً أن يترك مراراً المسؤولون الرئيس ماكرون، سواء في زيارته الأولى مباشرة بعد الانفجار المروّع؛ حيث نزل وحيداً إلى المرفأ، وجال في الأحياء المدمرة، متفقداً الناس والمنكوبين، وفي زيارته الثانية، عندما ذهب مباشرة من المطار إلى منزل السيدة فيزور في أنطلياس، حتى قبل أن يعرّج على القصر الجمهوري، ليقلّدها أعلى وسام فرنسي لما تمثله في الوجدان اللبناني من حلم بالجمهورية الرحبانية، لأنه يعرف أن اللبنانيين من وجعهم، يحسون يومياً ويتذكرون تماماً مغناة «ناطورة المفاتيح» المشهورة التي غنتها فيروز، والتي تتحدث عن شعب قرر أن يغادر بلده بسبب صلف الحاكم وظلمه، ويترك المفاتيح عند «زاد الخير» الناطورة!
كان هذا مساء الاثنين، لكن الأمر سيتكرر صباح الثلاثاء عندما سينطلق ماكرون وحيداً، لا يرافقه أي رئيس أو مسؤول كبير، في يوم الاحتفال بذكرى المئوية المذكورة، فيصعد إلى منطقة جاج، ليزرع وحيداً أرزة، ثم ينزل للمرة الثانية ليجول على قدميه ساعتين وسط الركام والغبار متفقداً عمليات التحضير لإعادة بناء المرفأ، ومحاطاً بالناس الذين كان قد عانقهم، ورأوه يدمع وهو يتفقد الأحياء المدمرة في السادس من الشهر بعد يومين من فاجعة الانفجار!

بالعودة إلى موضوع الإصلاح، وهو البند الأهم في مستقبل الوضع السياسي، كان من الواضح أن الوضع الخطر، بعد الانفجار، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وإشراف لبنان على الانهيار، أو على الزوال، كما حذّر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، قد أشعل منذ زيارة ماكرون الأولى إلى بيروت حركة اتصالات حثيثة بين ماكرون والرئيس الأميركي دونالد ترمب، تركزت على ضرورة قيام معالجة سريعة للوضع المتداعي في لبنان، ولهذا لم يكن غريباً أن تتحدث تقارير دبلوماسية عن عملية ضغوط قوية، حتى تهديدات وصلت إلى المسؤولين في بيروت، على قاعدة القول لهم «game over»، أو الإصلاح أو الخراب، وبالأحرى زوال لبنان، كما قال لودريان.

ماكرون لم ينتظر الاجتماع مع المسؤولين، ومع ممثلي الأحزاب حول الطاولة التساعية، مساء، في قصر الصنوبر، فخلال جولته نهاراً في المرفأ عقد لقاء مع ممثلي الأمم المتحدة وهيئات المجتمع المدني على متن البارجة الفرنسية؛ حيث أبلغهم ما كان قد أدلى به إلى موقع «politico»، من أن هناك خطة واضحة للإصلاح لم يعد مسموحاً التغاضي عنها، «وإنني لن أتساهل مع هذه الطبقة السياسية في لبنان، أنا لا أطرح نفسي بديلاً عنها، هناك انتخابات، وعلى الشعب أن يفرز واقعاً سياسياً جديداً، وإنني أعدكم بأنني سأغير مساري، ذلك أن الأشهر الثلاثة المقبلة ستكون حاسمة فيما يتعلّق بالتغيير في لبنان، وإذا لم يحدث هذا فقد يترتب عليه فرض إجراءات عقابية على الطبقة الحاكمة»

ضغوط فرنسية-اميركية منسقة

وأَوضح أنه لكي تكون هذه العقوبات ناجحة وصارمة، هناك اتصالات تجري مع الرئيس ترمب في هذا الخصوص، وهو ما يؤكد صحة ما كان قد تسرب إلى بيروت عن وجود لوائح اسمية، وضعتها واشنطن، تضيف أسماء مسؤولين وسياسيين من رأس هرم السلطة، ونزولاً، وكانت صحيفة «لو فيغارو» أشارت إلى هذا في تحقيق موسع يوم وصول ماكرون إلى بيروت، ورغم أنه حاول التخفيف من وطأة ما أثاره من الدوي، عندما وبّخ الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو الذي كتب التحقيق، لكن مصادر دبلوماسية أكدت أن صحيفة محترمة مثل «لو فيغارو» لم تكن لتنشر التحقيق لو لم تكن تعرف ضمناً أنه يساعد ماكرون، في ضغوطه المنسقة أميركياً على الطبقة الحاكمة في بيروت.

عملياً كانت عصا العقوبات قد بدأت فعلها في بيروت، عشية وصول ماكرون، فبعدما كان الحديث عن أن رئيس الجمهورية ميشال عون يستمهل تكليف رئيس جديد بعد استقالة حكومة حسان دياب، التي هندسها «حزب الله» كما هو معروف، ودائماً على قاعدة القول إنه سيجري مشاورات سياسية قبل التكليف، هدفها تسهيل التشكيل، وفي حين كانت بورصة التسميات نشطة‏، فجأة حدّد عون موعداً سريعاً لإجراء الاستشارات الملزمة، ورشّح رؤساء الحكومات السابقين مصطفى أديب سفير لبنان لدى ألمانيا، الذي كان يعمل في مكتب الرئيس نجيب ميقاتي، والمتزوّج من فرنسية، تردد أنها تمتّ بصلة قربى إلى السفير الفرنسي السابق في بيروت برنار إيميه.

وكان مفاجئاً أيضاً أن يتم تكليف أديب فوراً بتشكيل الحكومة الجديدة بأكثرية 70 صوتاً، رغم أن هناك كثيرين من النواب لا يعرفونه، ولا يعرف أحد شيئاً عن برنامجه مثلاً، لكن بدا واضحاً أنها بداية ثمار الضغوط الفرنسية الأميركية المتفق عليها، التي قالت مصادر دبلوماسية لـ«الشرق الأوسط» إن موسكو ليست بعيدة عن هذا، فقد آن الأوان لمحاولة منع لبنان من الانهيار، وما يمكن أن يخلقه هذا من الفوضى على المستويين المحلي والإقليمي.

فور نزوله من الطائرة غرّد ماكرون واصفاً الحكومة الجديدة بأنها يجب أن تكون «حكومة المهمة»، بما يعني أنها ستُشكل لتنفيذ مهمة محددة، وهو ما عمل الرئيس الفرنسي على التحضير له في محادثاته مع المسؤولين في بعبدا ومع السياسيين في السفارة الفرنسية، وهو يتركز عملياً على 4 نقاط…

أولاً؛ تشكيل حكومة من الاختصاصيين البعيدين عن الصف السياسي أو المنتدبين عنه.

ثانياً؛ الانخراط في برنامج إصلاحي شامل يركز على قطاع الكهرباء والاتصالات، وعلى محاولة استئصال كل منظومة الفساد من قطاعات الدولة المتآكلة والمنهوبة، والعمل على إعادة البناء ومواكبة تحديات جائحة «كورونا» التي تتقدم في لبنان.

ثالثاً؛ البحث لوضع قانون انتخابي جديد يكون أكثر تعبيراً عن روح التمثيل الشفاف والصحيح للشعب اللبناني.
رابعاً؛ إجراء انتخابات مبكرة خلال 6 أشهر أو سنة على الأكثر.

لكن هل هذه مهمة سهلة؟ التصريحات التي أدلت بها الكتل النيابية بعد الاستشارات مع الرئيس المكلف بدت وكأنها مزيج من التواضع والرضا والقبول، بعيداً من لغة الشروط السابقة، وهذا طبعاً نتيجة الضغوط والتلويح بالعصا، لكننا في بداية الطريق.

صحيح أن ماكرون أثار حفيظة كثيرين بالحديث عن أن «حزب الله» إرهابي من جهة، وسياسي له حضوره التمثيلي في المجلس، لكن بالنسبة إلى المراقبين بدا الأمر بمثابة صفقة ضمنية تقضي بأن يقول هذا الكلام، الذي لا يتعارض أصلاً مع الموقف الفرنسي، مقابل أن يقبل الحزب بالبقاء خارج حكومة المهمة.

وإذا كانت «حكومة المهمة» تعني أنها لمرحلة انتقالية، فإن العودة إلى صناديق الاقتراع قد تطوي الصفحة السياسية السوداء، لكن مسألة سلاح «حزب الله» قد تجعل «المهمة مستحيلة»، بانتظار الانتخابات الأميركية ونتائجها على العلاقات مع إيران!

السابق
مزيد من الحالات «الكورونية»..29 اصابة لمقيمين و11 لمغتربين!
التالي
«حدود» مناطق النفوذ الثلاث تتعمق في سوريا.. خريطة الصراع «جامدة» منذ 6 أشهر!