«قيصر» وتوازنات القوة

يدرك قيصر الكرملين أن “قيصر” العقوبات الأميركية لن يستطيع منع الغارات الجوية الروسية ضد الشعب السوري، ولن يكون بمقدوره وقف العمليات العسكرية للميليشيات الإيرانية وقوات الأسد في الأماكن الخارجة عن سيطرتهم، لكنه يدرك جيدا أن هذا القانون سيعيد التوازن الدولي في الصراع على سوريا وسيضع حدا لمحاولات موسكو فرض شروطها للحل على المجتمع الدولي.

من أستانا إلى سوتشي وما بينهما كافة المحادثات الجانبية السرية والعلنية التي أجرتها موسكو من أجل إضفاء شرعية دولية على ما تسميه انتصارا في الحرب السورية يصطدم الآن بجدار العقوبات الأميركية التي أفرغت عمليا الإنجاز الإيراني الروسي من محتواه وأعادتهما، من دون أن تطلق رصاصة واحدة، إلى المربع الأول للبحث من جديد ليس فقط في مستقبل الأسد ونظامه بل في مستقبل سوريا.

تاريخياً اعتمد الصراع بين القطبين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) في مرحلة الحرب الباردة على قائمة توازنات استراتيجية عقائدية اقتصادية دبلوماسية وعسكرية، حيث استخدم الطرفان كافة إمكانياتهما للحفاظ عليها، وقد شهدت مرحلة ما بعد أزمة خليج الخنازير تنافسا صاروخيا (تقليديا ونوويا) بينهما قام على معادلة الردع المتبادل، لكن بعد الحرب الباردة وانتصار المحور الغربي فرضت واشنطن تفوقا من نوع آخر تجاوز حتى حلفائها غير القادرين على منافستها.

اقرأ أيضاً: نصرالله «يستظلم» قيصر.. «ضرب وبكى وسبق واشتكى»!

أزمة موسكو العميقة أنها اعتقدت في لحظة انكفاء أميركي أنها قادرة على ملئها بأدوات تقليدية

يكشف قانون قيصر مدى تأثير الموقع العالمي للاقتصاد الأميركي على دورة الاقتصاد العالمي الذي يخضع 63 في المئة منه للدولرة (التبادل التجاري الدولي بالدولار) والذي سمح لواشنطن امتلاك قوة استراتيجية تعرف الآن بسلاح العقوبات الذي من الصعب أن يمتلكه أي طامح لمنافسة الولايات المتحدة لا في المدى المتوسط ولا البعيد.

سلاح العقوبات الذي تنفرد به الولايات المتحدة الأميركية وتستخدمه بوجه خصومها في الصراعات الدولية يعفيها من الاضطرار إلى التدخل المباشر أو اللجوء إلى استخدام القوة من أجل حماية مصالحها كما فعلت موسكو في سوريا، فما بين حجمها الاقتصادي والمالي وقوتها الناعمة وحضورها الدبلوماسي في المحافل الدولية تكرس واشنطن نظاما عالميا أحاديا بأدوات وقدرات مختلفة غير متاحة لدى طامحين دوليين وإقليميين يساعدها على تعزيز هيمنتها عالميا.

يكشف قانون قيصر مدى تأثير الموقع العالمي للاقتصاد الأميركي على دورة الاقتصاد العالمي الذي يخضع 63 في المئة منه للدولرة

فأزمة موسكو العميقة أنها اعتقدت في لحظة انكفاء أميركي أنها قادرة على ملئها بأدوات تقليدية. فذهبت إلى سوريا وغيرها من بقع الصراعات العالمية بقناعات وخرائط وانطباعات سوفياتية لم تعد صالحة للخدمة، فالانتصار الذي حققته بسلاح رخيص على شعب سوري أعزل لم ولن يحقق لقادتها استعادة موقعها على الساحة الدولية أو العودة إلى توازن القطبين ولو نسبيا، فمن أوكرانيا إلى جورجيا مرورا بإيران، تقطع العقوبات الاقتصادية الأميركية الطريق على طموحات موسكو بالعدوة إلى المجال الحيوي السوفياتي، وفي فرض مشروعها الجيوعقائدي الذي تروج له نخبها الاستراتيجية والمعروف بالفضاء الأوروآسيوي.

فأغلب مناورات الكرملين منذ قرار فلاديمير بوتين في الاندفاعة الخارجية تعتمد على وظيفة روسيا الدولية الدائمة في مجلس الأمن وحيازتها على سلاح نووي للردع وصواريخ عابرة للقارات، لكنها لا تؤمن لها التوازن مع أسلحة واشنطن الاقتصادية.

فالولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الأحادية التي تملك قوة طاغية تفوق ما امتلكته في مرحلة الحرب الباردة مكنتها من الانتصار على المعسكر الشرقي، وتتجه من خلال تفوقها العلمي والاقتصادي إضافة إلى قوتها العسكرية إلى تحقيق مشروعها قيادة العالم بدلا من السيطرة المباشرة، فمن خلال دورها الدبلوماسي ونفوذها الاستراتيجي تفرض على أغلب الدول التعامل معها كدولة كبرى محاذية.

في مشاريع المنافسة على الساحة العالمية تصارع بعض الدول للحد من الهيمنة الأميركية، وتحاول طرح البدائل تحت شعار التوجه شرقا نحو الصين وبلدان أخرى لديها مشاريع وطموحات جيوسياسية، قد تكون مخرجا لها من أجل التفلت من سطوة الولايات المتحدة في المحافل الدولية، لكن حتى الآن لم يتمكن أصحاب هذا المشروع من تقديم البديل كنموذج ناجح ومقنع، لذلك فإن مأزقهم يتراكم نتيجة لمعضلة صعبه قائمة على معادلة أن التماهي الكامل مع الولايات المتحدة من دون شروط كارثة، وفي المقابل فإن قرار مواجهتها من دون امتلاك الحد الأدنى من القدرات فهو انتحار.

السابق
أزمة سوريا مستمرة ما دام الأسد في القصر
التالي
التشهير بكندة الخطيب مستمر.. مشتبه فيها بالتخابر مع إسرائيليين لا مدانة!