محسن إبراهيم في نسخته الصامتة!

محسن ابراهيم

ودّعنا الرفيق محسن إبراهيم. آخر قيادات الصف الأول في “الحركة الوطنية” رحل. بالنسبة لجيل ما بعد الحرب، هو رجل يكاد يكون بلا هوية بصرية.

اسم على ورق الوثائق. صورة بالأبيض والأسود من سبعينيات القرن الماضي وثمانيناته.

وحضوره الملوّن محدود جداً، في ذكرى اغتيال كمال جنبلاط، وذكرى اغتيال جورج حاوي. هو في الصور، وحوله شهداء. جنبلاط، حاوي، عرفات، الفطايري وغيرهم من رفاق قضية ومبادئ رحلوا أو رُحّلوا.

كأنّ محسن إبراهيم خصم الكاميرات، عدوّ التصوير وشرائطه. هكذا نعرفه. يعيش في الظلّ بعيداً عن العدسات. يختفي في عمل سريّ هنا، ومراجعات المواقف هناك. يجتمع مع رفاقه ويصدر عنهم القليل إلى العلن. كأنه حالة معادية للأجيال التي لحقت به.

تلهث الأخيرة وراء وثيقة أو صورة أو مقطع فيديو، فتجد أنّ كل الوجوه تعيش فيها. إلا هو يعيش خارجاً.

في الصف الأول

محسن إبراهيم لم يكن دائماً في الظلّ. كان من الرجال الأول في الحركة الوطنية. كان دائم الظهور في الصور، في المؤتمرات، في التحرّكات الشعبية. رجل ببنية صغيرة يتصدّر مع عملاقين في الكاريزما والحضور على قيادة الحركة. كاريزما كمال جنبلاط وهدؤه، وحضور جورج حاوي وصوته واندفاعه، وهو معهما.

إقرأ أيضاً: غاب محسن ابراهيم فخسر المشرق العربي جزءاً من ذاكرته السياسية

لو لم يكن قادراً على مقارعتهما، لما كان موجوداً بينهما أساساً. “لم يكن لإبراهيم مشكلة مع الظهور الإعلامي والتصوير”، هذا ما يؤكده أكثر من رفيق له في منظمة العمل. كان يظهر في الصفوف الأولى للمهرجانات السياسية، وفي اجتماعات قيادات الحركة.

مع أبو عمار، نبيه بري، وليد جنبلاط، وكل تلك القيادات التي طبعت جزءاً من المقاومة من جهة، والحرب الأهلية من جهة أخرى. لكن جيلنا عرف نسخة أخرى من محسن إبراهيم.

مراجعة مرجعية

بين قصص اللقاءات بجمال عبد الناصر والقوميين العرب وإطلاق الحركة الوطنية وتشكيل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وحصار بيروت، والاجتماعات مع قيادات منظمة التحرير، يتشعّب تاريخ محسن إبراهيم.

وكذلك روايات الانتقال من مبنى إلى آخر خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، والركون في صالة سينما في شارع الحمرا تفادياً للاغتيال والقصف الإسرائيلي. وكل هذا انتهى بصمت وانكفاء، لتعود وتطلّ علينا مراجعة مرجعية عن كل هذا التاريخ وأحداثه وانزلاقاته.

سبقه في تقديمها كثر، لكنه عاد وأعلنها بعد عقود من الصمت: استسهلنا خوض الحرب الأهلية كمعبر للتغيير، وإباحة لبنان للمقاومة الفلسطينية بالشكل الذي تمّ. جاءت المراجعة بعد الصمت.

وانتقال من الجذرية الماركسية إلى ديموقراطيتها. موقف مماثل، حين يصدر عن جنرال سياسي مثله، يعني الكثير.

سياسة غير ملائمة

هو صمت يدلّ على الخسارة ويؤكدها. فشلت التجربة، وانهار عالم هو جزء منه. بلا مغالاة انكفأ وبقي في الظلّ. دفع ثمن كل ما سبق في الخروج الطوعي من الصورة. الحرب الأهلية، سقوط المنظومة الدولية، الوصاية السورية، كلها ظروف ساهمت في أن يجلس جانباً بعيداً عن الأضواء.

لم يعن له صياغة عقد جديد مع سلطة الوصاية، لا بل إن علاقته بياسر عرفات وفلسطين وضعته جانباً. لم يجد نفسه مضطراً إلى خوض غمار تجربة سياسية جديدة أسوة بغيره من القيادات. خصوصاً أنّ في هذه التجربة الجديدة دونية موصوفة.

خضوع وخنوع كاملان. دونية لا يمكن الحديث عنها إلا بالتوقف عند ما قاله جورج حاوي: “تستأهل هذه الطبقة السياسية أن تدعس رقبتها بالصرماية، يجلسون أمام ضابط أمني يقول لهم أسكت ولاه، كول هوا ولاه..

هذه الطبقة السياسية اللبنانية ذليلة لتقبل مثل معاملة الضباط السوريين لها، كانت ترضى بهذا الظل مقابل السكوت عن منافعها وسرقاتها لخيرات البلد”. لا يلائم كل هذا محسن إبراهيم.

كما حاوي، لم يكن محسن إبراهيم ليرضى بمعاملة مماثلة أو يسكت عنها. هو قيادي من الصف الأول. جنرال. من مطلقي المقاومة والحركة الوطنية.

“أنا حاطت 10 آلاف شهيد”، “80% من الأراضي اللبنانية”، “شو هالخندق هيدا”، عبارات شخصية نزار من “فيلم أميركي طويل” تنطلي هنا أيضاً في هذه السيرة، وفي سير كثيرة أخرى.

وسيرة إبراهيم تحكي عنه في التنظيم وضبطه. في فولاذيته وقطعه للرؤوس الحزبية، مجازياً.

قادر على جمع رؤوس متنوّعة على طاولة واحدة، والكل ينصاع أو يخرج. يضاف كل هذا إلى عوامل فشل التجربة وسقوطها، الوصاية وذلّها، الصلة بأبي عمار وآثارها. فقدّم لنا محسن إبراهيم نفسه بنسخة الانكفاء هذه التي نعرفها.

هو رجل صامت بفائض من الكلام وعزة النفس والمواقف والتجارب.

السابق
غاب محسن ابراهيم فخسر المشرق العربي جزءاً من ذاكرته السياسية
التالي
بعد الغارة على مراكز «الحرس»..قصف إسرائيلي لمواقع سورية في مصياف!