ما لم تقله منظمة الصحة العالمية

تيدروس أدهانوم غيبرييسوس

صنّفت منظمة الصحة العالمية في الـ11 من مارس 2020 كوفيد – 19 أو فيروس كورونا بأنه “جائحة”. ارتفعت حدّة الإجراءات وتهاوت الدول تباعاً لتسقط في الحجر التام في حرب ضد “عدو خفي وغامض”. يومها (أو حتى ما قبلها) تحوّل الإعلام العربي ـ بخلاف الإعلام الغربي ـ للعب دور أساسي في التوعية من مخاطر كورونا، ويسير يداً بيد مع الجسم الطبي في هذه المهمة القصوى. اقتضت مهمّتنا كإعلاميين حثّ الناس للتعاون عبر ملازمة منازلهم واتباع إجراءات السلامة المُتعارف عليها دوليا للتخفيف من وطأة العدوى قدر المستطاع فيتمكّن الأطباء من إسعاف المصابين بما تيسّر. كان لزاماً يومها من باب إنساني وبرسالة هادفة محاولة “إبطاء العدوى” عبر التوعية ـ لا التهويل (كما تم اتّهامنا)ـ لتنسيق الأعداد المصابة مع قدرة الجسم الطبي على استقبالها. فخطورة هذا الفيروس لم تكمن بعدم القدرة على الشفاء منه بل بعدم التمكّن من إسعاف كل المصابين دفعة واحدة. ما يحتاجه العالم يومها لم يكن متوافراً لمداواة المصابين ممن يحتاجون عناية مركّزة أو أجهزة تنفّس خلال فترة احتضان الفيروس (14 يوماً). عندها، تحوّل الجسم الطبي والجسم البشري إلى خط الدفاع الأول في هذه الحرب. الاثنان كانا متفاوتان بقدراتهما: لا كل جسد بشري يمتلك درجات المناعة نفسها ولا طواقم طبية كافية وأسرّة في العناية المركزة أو أجهزة تنفس يمكنها مواكبة تضاعف الإصابات السريع ومضاعفات المرضى المتفاوتة. وبالتالي تأكد وفق الأرقام عدم إمكانية أي دولة في العالم على استيعاب أعداد المصابين دفعة واحدة مقارنة بسرعة الانتشار، مهما كان نظامها الطبي متقدماً.

اقرأ أيضاً: هل يخسر لبنان مساعدة صندوق النقد بسبب «حزب الله»؟

نجحت مهمتنا الإعلامية على مدار هذه الفترة بتقليل سرعة انتشار العدوى مقارنة بالعالم أجمع. وعندما طرقت الجائحة أبوابنا كانت شعوبنا مهيأة لفهم خطورة هذا الوباء والتزام دورها المسؤول في الحرب على هذا العدو الخفي. الإجراءات الحكومية كانت سريعة والتزام المواطنين تنحني الرؤوس له. أمّا في “الدول العظمى” والتي كانت قد تساهلت بداية في التعامل مع هذه الكارثة أو تأخرت حكوماتها وشعوبها في استيعاب هول ما يحدث حول العالم فكانت الأرقام “صادمة” فيها، حتى أنّ مواطنين أميركيين وشركات قانونية أقاموا دعاوى قضائية ضد وسائل إعلام أميركية لعدم لعب دور توعوي ومعرفي كافٍ للأفراد ضد هذا العدو.

أما اليوم، وبعد 3 أشهر فقد تغيّرت الظروف! وكما كان دور الإعلام العربي “رائداً” في المعركة الأولى، لا بد من أن يبقى كذلك في المعارك اللاحقة، ولزام علينا أن نشرح تغيّر هذه الظروف لمواكبة المرحلة الحالية والمقبلة بتغيّراتها وتحدّياتها. فما الذي تغيّر مذاك ولم تواكبه منظمة الصحة العالمية؟ وما الذي تغيّر وبات لزاماً علينا كإعلاميين مواكبته والتوعية من مخاطره اليوم رغم تمسك منظمة الصحة بخطابه “التهويلي”؟

تغيّر الكثير عما كان عليه منذ 3 أشهر، إلا أنّ خطاب منظمة الصحة العالمية بقي واحداً حتى لحظة كتابة هذا المقال. كان لزاماً في البداية اتخاذ الإجراءات القصوى مع فيروس غامض وخفيّ، لا معلومات كافية بشأنه ولا إحصائيات يمكن الاعتماد عليها بعد، أو دراسات وافية! الدول كما المنظمات تعيش في حالة ““PANIC عموماً إذا جدّ طارئ لا يعلمون عنه شيئاً وبالتالي فإنّ التدابير الأولية العاجلة غير مستغربة لا بل محقّة. أما اليوم، وقد باتت تعلم منظمة الصحة العالمية أنّ الأخطار لم تعد بحجم سابقاتها فبالتالي يصبح تمسّكها بحدّة الخطاب نفسه “هداماً” لا بنّاءً. وإذا كان تمسّكها بـ”تهويلها” هو لخوفها من فقدان صدقيتها مستقبلاً، يبقى لزاماً عليها الوضوح والشفافية. لا بدّ لنا اليوم ألا نسير وراءها معصوبي الأعين. تغيّرت جوانب عديدة منذ 3 أشهر، وما نعيشه اليوم من أزمات حالية ولاحقة تخطّت بخطورتها الجانب الصحي. النافدون من كورونا كُثر أما النافدين من تداعياته فقلّة. لا لأنّ الجانب الصحي بات أقلّ أهمية من الجوانب الأخرى بل لانّ تغيّرات “إيجابية” طرأت على هذا الفيروس وعلى القدرة في مواجهته طبياً (من حيث استعداد الدول) فيما ترفض منظمة الصحة العالمية الإقرار بها، لحينه.

هذا، ولا تحتاج قراءة البيانات أن تكون طبيبا أو عالماً بل تحتاج منطقاً تسلسلياً لفهمها. ففي بداية الأزمة، كانت الإحصائيات تشير إلى نسبة وفيات وصلت إلى 7% و10% وفق الحالات المسجّلة والوفيات المؤكدة. الثابت في هذه المقاربات مرتبطة بالفحص وشهادة الوفاة. الأكيد هو أرقام الوفيات، والمؤكد (نسبياً) هو أعداد الإصابات وفق نتائج فحوصات أتت “إيجابية”. لكنّ هذه المعادلة تغيّرت عبر “حقيقة” تم الكشف عنها وتجلّت باكتشاف أنّ أكثر من 80% من المصابين كانوا بدون عوارض أو asymptomatic. وهنا لا بدّ من التوقف عند هذه النقطة تحديداًالتي شكّلت نقطة تحوّل في فهم هذا الفيروس. لا دولة في العالم أجرت فحوصات لأكثر من 10 % من تعداد سكانها. وإذا كانت الإصابات المسجلة حول العالم تصل إلى 4 ملايين بينهم 80% بدون عوارض (تم إجراء الفحص لمعظمهم لأنهم خالطوا مصاباً أو لدواعي مهنية كالفحوصات الاحترازية التي تقوم بها المؤسسات العاملة أو لدواعي سفر وحجر إلزامي) وفيما أنّ البشر عموماً لا يقصدون طبيباً اعتباطياً لإجراء فحوصات فبالتالي أعداد الإصابات من المرجّح أن تكون عشرات الأضعاف أكبر من تلك المسجّلة عالمياً. وفق هذه المعادلة (80% بدون عوارض) يتبيّن أنّ هناك أكثر من 200 مليون إصابة في القارات الخمس وعملية حسابية بسيطة 300 ألف وفاة من 200 مليون مصاب ليس بالخطورة نفسها. وهذه هي الحقيقة الأولى التي لم تقاربها منظمة الصحة العالمية بنفس المنطق.

أمّا الحقيقة الثانية، فهي طبيّة بحتة وتلتقي الدراسات الفريوسية على تأكيد بشأنها وهو: أنّ فترة احتضان الفيروس هي 14 يوماً كمعدّل عام. وفيما لا لقاح بعد وفيما أنّ العلاجات لم يتم التأكد منها فإنّ جسم الإنسان ومناعته هي المضاد الأول لقتل الفيروس الذي يدخل الجسم ويختفي بعد هذه المدة. وفق هذه المعادلة، يؤكد علماء الفيروسات بأنّ الفيروس ـ مع بداية ظهوره ـ يكون أقوى مما يصبح عليه مع مرور الزمن، حيث أنّ أكثر الفريوسات فتكاً اختفت مع الوقت. لماذا؟ الجواب لدى العلماء الذين يؤكدون أنّ الفيروس متى دخل جسم إنسان فإنّ مناعته تبدأ معركة مضادة وعند العدوى فإنّ النسبة المتبقية من حدّته هي النسبة التي تخرج من جسمه لدى عدوى شخص آخر. مثلاً: دخل فيروس جسم فلان بنسبة 100% وبعد يومين فقد من قدرته 20% (بعد أن جاربته المناعة على مدار يومين) ولدى انتقاله إلى آخر فقد وصل إليه بنسبة 80%. من هنا فإنّ العوارض متفاوتة وفق قوة الفيروس الداخلة والخارجة من الجسم.، التي تصل حدّ أن تصبح لاغية مع مرور الزمن. ولتفسير هذه المعادلة، يتأكد أنّ الفيروس الذي انتشر في ووهان في ديسمبر وإيطاليا وإيران في فبراير كان أقوى مما هو عليه اليوم. وتباعاً، بات كورونا أقل خطورة بعد أن كافحته ملايين الأجسام البشرية بمناعتها المضادة وخرج منها أضعف من أي وقت مضى مع بداية ظهوره.

أمّاا الخطر الأبقى لغاية اللحظة فهو ذاك الكامن مع أصحاب المناعة الضعيفة أو أصحاب الأمراض المزمنة، وهنا يصبح الصالح العام والمسؤولية الإنسانية أساسية للإبقاء على الإجراءات الاحترازية والتباعد الجسدي وغيرها لحين اكتشاف لقاح فعال. أمّا الهلع “غير المبرر بعد الآن) فلا بد أن ينتهي! وهذا الهلع مقارنة بخطورة الفيروس بات هدّاماً اليوم وسيستمر لسنوات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والنفسي. ولا بدّ لمنظمة الصحة أن تفصح عن هذه المعطيات بالموازاة مع حملة “التهويل” التي تتبناها ـ ولا تزال ـ حيث تؤثّر سلباً على الوضع العالمي.

يعيش الاقتصاد العالمي حالةٌ غير مسبوقة لم يشهدها منذ الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن الماضي. تسبب انتشار الفيروس فى إعاقة حركة التجارة العالمية مع ضعف الطلب العالمي، لا سيما الطلب على النفط، وإصابة قطاعات اقتصادية وإنتاجية بالشلل التام وانهيار العديد من الأسواق المالية العالمية الرئيسية وتراجع مؤشراتها لمستويات قياسية. كلّ ذلك، ترافق مع خسارة عشرات ملايين البشر لوظائفهم وما يستتبع ذلك من انعكاس كارثي على ملايين العوائل وما ترافق مع ارتفاع نسبة الفقر عالمياً، وتضاعف أرقام من يحتاجون الغذاء وفق تصريحات برنامج الغذاء العالمي. غيض من فيض في الانعكاسات الاقتصادية والتي ترافقت مع تأثيرات نفسية على الأطفال خصوصاً الذين تغيّرت حياتهم بين ليلة وأخرى، وقد فقدوا روتيناهم اليومي واحتكاكهم الاجتماعي الذي يشكّل الجزء الأكبر من نموّهم المعرفي والنفسي. هذه التأثيرات الهدّامة، لا يمكن أن تستمر حيث أنّ تداعيات كورونا باتت أخطر من الفيروس نفسه اليوم مع تراجع حدّته وتكشّف معالمه وتهيؤ الجهاز الطبي له بخلاف أوائل ظهوره. فكما توجّب على الإعلام حماية الإنسان وصحّته بداية الأزمة بات لزاماً اليوم حمايته مما بات أخطر عليه. وعسى أن تتعظ منظمة الصحة العالمية والإقرار بالمتغيّرات الطارئة “الإيجابية” بما يخص كورونا لأنّ صمتها بات “هدّاماً” لسنوات مقبلة، إلا إذا كانت تبحث عن دور عالمي ومصلحة وجوديّة أهم من أهدافها التأسيسية لـ”خير الإنسانية”.

السابق
بالفيديو.. إشكال بين القوى الأمنية ومعتصمين أمام منزل القاضية عون في الاشرفية!
التالي
تغريدة لافتة لخامنئي.. هكذا سيزيل إسرائيل!