علي بدر الدين مبدع من الزمن الأصيل

علي بدر الدين
فقدت مدينة النبطية أبرز خطاطيها الفنان السيد علي بدر الدين خطاط الفن العاشورائي والحروفي المبدع .. الإعلامي كامل جابر في وداع الفنان بدر الدين :

لا أدري لماذا كلّما عانقتْ عينايَ وجهَ الفنّانِ علي بدر الدين، يراودُني هذا الإحساسُ بالسّموِّ والإطمئنانِ، وبأنّ النّبطيةَ لمّا تزلْ بخير، وبأنَّها ما فتئتْ غنيّةً بطاقاتِها الثقافيةِ والفنّيةِ وبالموهوبين، ممّن شكّلوا أعمدةَ سمعتِها، التي وصلتْ إلى آخرِ الدّنيا، وممّن أرسَوْا نمطَ العطاءِ، إلى حدِّ الإنغماسِ والإخلاصِ، من أجلِ تكريسِ ما يختزنُونَه من إبداعٍ، ويؤمنون به من عقائدَ فنّيةٍ وثقافيةٍ، وتعميمِ هذا الإيمانَ، ليس من أجل جنيِ مالٍ أو نقشِ سجلّاتٍ من الإطراءِ، أو تدوينِ أسمائهم في دفاترِ الأمجادِ الزائفةِ، إنّما من أجلِ الإبداعِ والعطاءِ ليس دونَهُما.
أيّها الآتي إلينا من زمنِ «ياسر بدر الدين» و«عادل صبّاح» و«زعل سلوم» و«فريحة الحاج علي» ومن إبداعِهِم ومجدِ عطائِهم، نحن نعظم بكَ، لأنَّكَ الشّاهدُ الحقُّ على الحقبةِ الذهبيّةِ من عمرِ مدينةٍ خرجتْ من أزقّتِها المتواضعةِ قوافلُ من أعلامِ الفقهِ الدينيِّ والأدبيِّ والثقافيِّ والفنّي. وما رسمتهُ أيديك من لوحاتٍ، ونمّقته أناملُك من خطٍّ عربيٍّ تجاوزَ القواعدَ والمتعارفَ عليه، إلى حدِّ الإبتكارِ الذي ميّزَ فنّكَ وانغماسَك فيه، إلا خيرَ شاهدٍ على زمن النبطية الجميل، الذي صنعتَ هويّتَهُ أنتَ وأمثالُك ممّن أعطَوْا وعلّمُوا وغرسُوا، وتركوا لنا هذه المروجَ التي نحصدُ من حنطتِها ما يغذّي أرواحَنا ويُنمِّي أفكارَنا وعقولَنا.


ولأنّ العينَ تتكحّلُ كذلك بما تراهُ، فإنّ علي «الدّيك» كحّلَ عيونَنا بأجنحةِ خطِّهِ، وجمّلَها، بل فتحَ مُقَلَنَا على آفاقِ الخطِّ العربيِّ، حتّى كدنا نخالُ خطوطَهُ المتراميةَ من أبياتِ شعرٍ «عاشورائيّ» وآياتٍ قرآنيةٍ كريمةٍ، لوحاتٍ إيقاعيّةً تتخطّى الحزنَ إلى أكثر من الحزنِ، وتتجاوزُ الفرحَ إلى قمّةِ الفرحِ. هذا الإبداع عند صديقنا، لم يبقَ حبيسَ حدودِ مدينةٍ ومنطقةٍ، بل وصلَ صداهُ إلى أبعدِ من الوطن، إلى تركيا وإيران وبلدان عربية.
لي في الجيرةِ ديكٌ، يبدأُ صياحُهُ مع دنوِّ منتصفِ الليلِ، ولا ينتهي مع انتهاءِ الصباح، وهو لمّا يزلْ يصيحُ بلا جدوى في غير وقتٍ ومكانٍ وأوانٍ؛ لكنَّ فنّك يا «ديكُ» النبطيةِ والخطاطينَ والرسامينَ، وصلَ صياحُهُ إلى أقاصي الدنيا، ومع ذلك لم تنفشْ ريشَكَ يوماً أو تبحثْ عن عُرفٍ يتوّجُ رأسَكَ، بل إنَّ تواضُعَكَ أبحرَ فينا إلى حدٍّ كِدنا معَه ننسى أنَّ من يرسمُ هذا المجدَ اللونيَّ ويدوّنُ هذه السيرةَ من الخطِّ العربيّ، هو رجلٌ نعايشُه، نراهُ ويرانا، بل جعلَنا تواضُعُك نوغل في غفوةِ عيونِنا عنكَ، حتى ظنَّ أكثرُنا أنَّ من يصنعَ هذا المجدَ رجلٌ غيرُ مرئيٍّ، أميرٌ من الزمنِ المستحيلِ، فاعذُر يا «سيّدي» غفوتَنا…

اقرأ أيضاً: تكريم الزميلين في الوطنية علي بدر الدين وسامر وهبي في النبطية


لم يحملْ علي بدر الدين الألوانَ وزخرفتَها على جسدِهِ ليتباهى بها تبجُّحاً، بل حوّلت يداهُ الألوانَ إلى أعمالٍ إبداعيةٍ حصدت الجوائزَ والتكريمَ. أتقنَ الخطَّ العربيَّ فانسابَ بين أصابعِهِ مطوّلاتٍ من الآيات القرآنية الكريمةِ وأبياتِ الشعرِ والأسماءِ، توّجَها بلوحاتٍ وزخرفةٍ في القصورِ الملكيةِ السعوديةِ مع الفنان الراحل زعل سلّوم «رفيقِ عمرهِ الذي علّمهُ التحكُّمَ بالألوانِ في الرسمِ وإيقاعِ الخطوطِ العربيةِ، إذ كان أحدَ ملوكِ الخطِّ هو والفنانُ الشاعرُ ياسر بدر الدين. فعمِل معه مدةَ سبعِ سنواتٍ قبلَ أن يختطِفَهُ المرضَ وهو في رَيعانِ الشباب، في تزيين قصر الأمراءِ والعديدِ من القصورِ الملكيّة السعودية»
تتلمذ «السيّدُ» في الخطِّ كذلك على يدِ الشاعرِ الكبيرِ وحاصدِ الجوائز، ياسر بدر الدين، وترعرعَ مَعَهُ في بيتٍ واحدٍ، بيتِ السيد صبحي بدر الدين «كان السيد ياسر يمتلكُ موهبةَ الخطِّ إلى جانبِ أريحية الشعر، وكان يعدُّ من كبارِ الخطاطينَ العربِ، وهو الذي أرسلَه قبلَ بلوغِهِ الثامنة عشرة إلى جامعةِ الخطِّ العربيِّ في مصرَ. هناك التحقَ بأحدِ معاهدِ الخطِّ وخضعَ لدوراتٍ عدةٍ جعلتُه متفوّقاً، وحلّ في المرتبة الأولى في الخطِ «الفارسيِّ» والخطِّ «الديوانيّ» اللذين نال عليهِما جوائزَ عديدةً. أما موهبةُ الرسمِ فقد اكتشفَها وهو على مقاعدِ الدراسةِ الابتدائيةِ وللتمكنِ منها، لجأَ لاحقاً إلى رفيقِ الطفولةِ الفنانِ المبدعِ زعل سلّوم، فدلَّهُ على أزقتِها وطرقِها ومختلفِ تفاصيلِها، وراحَ الثلاثةُ، يبدعونَ أعمالاً ومعارضَ مختلفةً، بعدما ساهمت البيئةُ الاجتماعيةُ والفنّيةُ والسياسيةُ في مرحلةِ أواخرِ الستينيات ومطلعِ السبعينيات، أيّ المرحلةِ الحزبيةِ اليساريةِ، في إطلاقِهِم وإطلاقِها، وأهّلتْهُم لأن يخوضوا غمارَ المعارضِ المحليةِ والإقليميةِ ثم الدوليةِ، وكانت مرحلةً ذهبيةً.

عاصفةٌ من حنينٍ لم تهدأْ قبلَ أن تحملَ «الديكَ» إلى مسقطِ رأسِهِ، وعادَ إلى النبطيةِ فلزِمَها ولزِمَته، ترك المجد العربي والعالمي واستقر فيها، وراحَ يبدعُ ها هنا، في أجواءِ عاشوراءِ. أمّا اللافتات التي ترفع في عاشوراءِ من الآياتِ الكريمةِ وأبياتِ الشعرِ للراحل الشيخ عبد الحسين صادق، الجَدّ، فإنّ أروعَها وأشَهرَها هي تلكَ التي نفّذتها أناملُ علي «الديك»، لتتبدَّى إبداعاتٍ من الخطوطِ المنسابةِ بإتقانٍ، جعلتِ الشعرَ والأقوالَ في حالِ إنسجامٍ وتلازمٍ بين المعنى والشكل.


وهو لم يبعدْ عن الأعمالِ «الزيتية»، فقد نفّذ منذُ سنواتٍ خلتْ، نحوَ خمسينَ لوحةٍ. تأثر «الديك» بالقضية الفلسطينية، وعاش معاناة أبناء الجنوب، فجسّد ذلك في لوحاته، واختصر في لوحة «الصرخة» مأساة الجنوبي. رسم الطبيعة والوجوه المختلفة، وركز على جذوع الشجر، وخصوصاً الزيتون.
لم يعرف «السيد» الراحة أبداً وحياته كلها شغل بشغل، لا وقت للراحة عنده، لكن مجمل اهتمامه بالخط الذي يشكل جزء منه بعض المصدر المعيشي. كان بإمكان الديك أن يكون من أصحاب الرساميل، لكن النبطية فتنته إلى حد تخليه عن مواقع عالية في الدول العربية ليعود ويحبس نفسه في دائرة مدينته، غير آبه بالشهرة والعالمية وبتحقيق الكثير من الطموحات التي كانت تراوده.
منّي معك إلى العزيز الهندس محمد الرضي ألف تحية لروحيكما، وقد رحلتما في التاريخ عينه، بفارق سنة واحدة…
خسارتان لا تعوضان…
كرّمه المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في النبطية بتاريخ 27 نيسان 2015 بحضور أمين عام المجلس الأستاذ حبيب صادق…

السابق
تحركات احتجاجية في عدد من المناطق.. وهذه الطرقات المقطوعة
التالي
عشرات الموقوفين في طرابلس والتهمة.. التظاهر بسبب الجوع والفقر!