قاسم سليماني.. أو حين يصير الظلّ والضوء شيئاً واحداً

قاسم سليماني

هل وصل اللواء قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس”، أبرز تشكيلات “حرس الثورة الإسلامية” للعمليات الخاصة والخارجية، إلى نقطة الذروة في حياته الأمنية والسياسية، أم أنّ الأيّام تحضّر له ما هو أرفع وأكثر حساسية من ذلك؟ وحده الزمن المقبل يتكفّل بحسم هذه الإجابة، وإن كان صعود الرجل والهالة المنسوجة من حوله في السنوات الأخيرة تحاكي الصعود النموذجي لأي ظاهرة بونابرتية تصعد السلالم بسرعة في مؤسسة عسكرية أو أمنية، وتحترف الإستثمار في روح المغامرة من دون الشرود، قيد أنملة، عن “ضوابط السلك”؟ لكن إلى أين يصعد قاسم سليماني بعد، أم هي القمة التي وصل إليها؟ إلى قيادة الحرس؟ آلت لمحمد علي جعفري من بعد اللواء يحيى رحيم صفوي عام 2007، الآتي من قيادة القوات البرية للحرس، ومن تجربة الجامعة الحربية للحرس، العاملة على التطوير النظري والعملي للخبرات في الحرب غير المتكافئة.

اقرأ أيضاً: قاسم سليماني… اغتيال رأس المشروع الإيراني بالإقليم

لكن حركة قاسم سليماني من أفغانستان إلى لبنان وسوريا والعراق هي التي استقطبت حولها الأنظار والإنتظارات، وساهم فيها كل من المنخرطين والموالين في محور الممانعة الذي تقوده ايران، وأخصام هذا المحور الدوليين والاقليميين والمحليين، سواء بسواء. رئاسة الجمهورية؟ جرى التداول باسم بقوة قبل عامين، وكانت مناسبة ليظهر فيها تمسّكه برتبة “الجندية” في خدمة الثورة الإيرانية، بعيداً عن الأضواء. لكن هذا البعد عن الأضواء صار بحد ذاته مجتذباً للأضواء، مصنعاً للسرديات البطولية، إطاراً لتنامي الأسطورة، وهذه ليست أبداً من نسج الخيال، بالعكس، هي تماماً من “نسج الواقع”، مع أنّه واقع التفتت الكياني والمجتمعي لبلدان المشرق العربي بالتحديد، وظهور القدرة الاستثنائية للجنرال سليماني على فهم مآلات الأوضاع في كل بلد على حدة، وعلى امتداد المنطقة، فابن كرمان الإيرانية الذي شبّ على فهم المعادلات العشائرية المعقدة فيه، ولعب هذا الفهم لاحقاً دوراً مفيداً للنظام الثوري الإيراني في ضبط هذه المحافظة المفتوحة على الفوضى الأفغانية المجاورة، فهم أيضاً المعادلات الطائفية والمذهبية للمشرق العربي، وكيفية توظيفها، ودمج فهمه هذا، بالتطبيق الميداني لكل ما طوّره “الباسدران”، لا سيّما في جامعتهم الحربية، من فهم لمنطق الحرب غير المتكافئة، بين قوى نظامية وقوى غير نظامية، والحاجة النظامية لقوى “غير نظامية” من نوع خاص، وتعبوي، على منوال “الباسدران” و”الباسيج” لقمع القوى غير النظامية.

صعد قاسم سليماني في سلك الثورة الإيرانية وحرسها، ابتداء من قمعه تمرداً كردياً في مهاباد نهاية السبعينيات، مثلما اشتهر بدوره في امداد القوات على الجبهة في الحرب العراقية الايرانية بالمياه، ثم دوره على الجبهة نفسها على رأس “فرقة ثار الله 41″، وشكّل استلامه لملف “حزب الله” منذ نهاية التسعينيات انعطافاً هيكلياً حقيقياً في هذا الحزب وأساليبه الأمنية والقتالية، ثم كان له دور مهم في المواكبة الإيرانية للحرب الأميركية على حركة طالبان، ثم في الإستفادة الإيرانية من ظروف ما بعد الإحتلال العراقي لإيران، ورغم أنّ “الجمهورية الإسلامية” لم يتيسر لها نموذج مشابه لـ”حزب الله” في حالة التنظيمات والفصائل الأخرى الحليفة لها على امتداد الشرق الأوسط، إلا أنّ قاسم سليماني أدرك بذكاء أنّ لا حاجة لإعتماد نفس “الستاندرت” في كل ساحة، وهكذا تطوّرت “إمبراطورية الميليشيات المهدوية” في المنطقة بشكل متفاوت في الشكل التنظيمي والحجم بين البلدان، إنّما ليكون المشترك الأساسي بينها هو مرجعية “فيلق القدس”، والهالة حول قاسم سليماني، ثالث ثلاثة بنظر مقاتلي هذه الميليشيات، من بعد باني النظام، الامام الخميني، والمرشد الحالي علي خامنئي، والأخير سبق أن لقّب سليماني بـ”الشهيد الحي” يوم تولى “فيلق القدس”.

يرعى المرشد والمؤسسة الحرسية برمّتها عملية صناعة وتكثيف الهالة الكاريزمية والأسطورية حول قاسم سليماني، وهو يحترف من جهته لعبة الظل والظهور، وثنائية العتمة والنور. حين يختفي تماماً، تسري الشائعات حول مصيره، ثم تتحول الى شائعات ادارته للقتال، لدعم نظام بشار الأسد، أو لمواجهة تنظيم داعش، ليظهر من ثم متنقلاً بين أطلال حلب الشرقية، أو في البوكمال. تراه يخطب في الناس ضد الإستكبار الأميركي في واحدة من مدن ايران، وقائد ميداني تنسيقي لفصائل “الحشد الشعبي” للتقدم في العراق على طريق تكريت، فالموصل، بالتوازي مع الحرب الأميركية الجوية والصاروخية على داعش نفسها. يدرج على لوائح الإرهاب الأميركية، فيما هو يعتبر ما يفعله منذ سنوات مدرسة رائدة في مكافحة الإرهاب. من أفغانستان إلى العراق، كان له تواصل، مباشر أو غير مباشر، مع الجنرالات الأميركيين، أكثر من مرة، ولا يخفي التركيز الاعلامي العدائي ضده، أميركياً، بعضاً من “الإنبهار” به وبقدراته وتفانيه للنظام الحاكم في بلاده، ومهاراته ليس فقط الأمنية بل التفاوضية أيضاً.

عام 2016، أقبلت الجماهير في ايران على فيلم “بودي غارد” للمخرج ابراهيم حاتمي كيا، وفهم يومها أن الفيلم يقتبس من ظاهرة قاسم سليماني. من بعد شعبوية محمود أحمدي نجاد، “التشافيزية في لباس خميني” التي ظهر بالمحصلة أنّها “غريبة الأطوار” بالنسبة لنظام ولاية الفقيه، يظهر قاسم سليماني بوصفه “التركيبة الكيميائية” الأفضل بالنسبة إلى صورة هذا النظام عن نفسه، يظهر كـ”ثورة دائمة” متجسدة في شخص واحد، دائم الحركة، دائم القتال، في الظل دائماً، وظله تحت الضوء أكثر فأكثر، حتى يصير الظل والضوء شيئاً واحداً. ثورة دائمة في شخص واحد، إنما في شخص معظم ما يقوم به هو مهام “الكونتر انسورجنسي” أي الأنشطة العسكرية والأمنية والسياسية المتخذة ضد أنشطة متمردين أو منتفضين، وهي أنشطة منخرطة تماماً، بواقع الحال، في إعادة رسم الخارطة الداخلية، وإعادة تشكيل الأنسجة الأهلية، لمجتمعات المشرق العربي.

( مقال كتبته أواخر آب 2018 كبروفيل عن قاسم سليماني وتأجل نشره في حينه ثم نسيناه وعثرت عليه للتو)

السابق
نصف مليار حيوان.. ضحايا حرائق استراليا!!
التالي
خيوط في إغتيال سليماني .. «الخرق» من مطار بغداد وطاقم الطائرة السوري!