تنازلات طهران الوشيكة

الخبر الذي قاطعته رويترز مع أكثر من مسؤول إيراني وكشفت فيه عن مقتل نحو ١٥٠٠ إيراني خلال أيام الاحتجاجات القليلة التي شهدتها المدن الإيرانية، يكشف مدى شعور النظام في طهران بأخطار محدقة بدأت تظهر في متونه الاجتماعية. “النظام في خطر افعلوا ما يحميه” قال المرشد على خامنئي لمساعديه، على ما نقلت الوكالة نفسها أيضاً. لكن ما لم يقله المرشد، أو ربما قاله ولم ينقله المسؤول الذي تحدثت إليه رويتر، هو أن طهران بدأت تحث الخطى نحو “تسوية” مع واشنطن، ومن الواضح أن الملف النووي تراجع إلى المرتبة الثانية في أولويات إدارة دونالد ترامب وحل محله ملف النفوذ الإقليمي. هذا النفوذ الذي شرع يترنح في بغداد بفعل انتفاضة مدن الشيعة، وتعرض لاهتزاز عميق في لبنان أيضاً بفعل الانتفاضة الموازية، وهو في سورية يشهد مرحلة شديدة الغموض بفعل تقدم النفوذ الروسي عليه، وهذا ربما بسبب “الحمى الاقتصادية” التي تعيشها طهران.

١٥٠٠ إيراني قتلتهم سلطات بلادهم في أيام قليلة! النظام إذاً يعيش حالاً من الهلع ولن يتردد في سحق المزيد، وفي موازاة ذلك سيسعى إلى تقديم تنازلات لم يعتد على تقديمها. تنازلات في الخارج وليس في الداخل، فمحنة الإيرانيين مع نظامهم ليست جزءاً من هموم العالم. ١٥٠٠ قتيل رقم لم يثر بالرأي العام العالمي ذهولاً. تعاملت معه دوائر المراقبة كمؤشر على حال النظام لا على المأساة الكبرى التي يمثلها، النظام يعرف ذلك تماماً، فهو عندما سحق الثورة الخضراء في العام ٢٠٠٩، فعل ذلك على نحو لا يقل وحشية عما فعله هذه المرة، ولم يستدرج ذلك أكثر من حسرة عابرة أبداها العالم، وتمكن النظام من تجاوزها.

لكننا هذه المرة أمام اهتزاز أشد عمقاً. إنه النفوذ الإقليمي الذي استثمرت فيه طهران كل طاقتها وثرواتها. النظام الذي بناه الجنرال الغامض قاسم سليماني. هنا تماماً ما يبدو أنه معروض على طهران أن تتنازل فيه. والمنطق يقول أن لا سبيل آخر أمامها. فلاديمير بوتين بدأ يقضم النفوذ في سوريا، وها هو يقايض الأتراك في ليبيا وسوريا. حكومة عادل عبد المهدي سقطت في بغداد، والنجف اليوم أكثر تخففاً من حسابات العلاقات المريرة مع الإيرانيين. أما بيروت التي تضم درة تاج هلال النفوذ الإيراني، أي حزب الله، فكشفت الوقائع فيها هشاشة النظام الذي بناه الجنرال سليماني. مقايضة الفساد بالسلاح أمر دأب عليه النظام على مدى سنوات، لكنه انهار بلفة بصر. وعلى الإيرانيين لكي يعيدونه أن يتولوا تمويل الفساد بأنفسهم بعد أن نفدت ودائع المصارف، وابتلعتها مزاريب النظام.

اقرأ أيضاً: من هو «عبد الرضا شهلائي» القائد في الحرس الثوري؟

إنها اللحظة النموذجية التي من المفترض أن يقدم فيها النظام في طهران تنازلاً كبيراً يساعده على التقاط أنفاسه. وهي اللحظة التي من المفترض أن تدفعه لإعادة حساباته وفقاً لمعطيات أخرى غير معطيات الميدان التي قدمها الجنرال للمرشد. لا يكفي هزيمة ساحقة للسوريين حتى يستقيم النفوذ، ولا تكفي الهيمنة على الحكومة في العراق لكي يستتب الأمر لطهران هناك، وفي لبنان سطت السلطة التي أنشأها حزب الله من ألفها إلى يائها على أرصدة اللبنانيين في المصارف لكي تواصل نفوذها، ولكي يواصل الحزب حروبه، وهو أمر لن تنجو هذه السلطة من ارتداداته في الأيام القليلة القادمة.

ما هكذا يُبنى النفوذ أيها الجنرال. أعتى الأنظمة لا يمكنها أن تجعل من “الانتصارات” الميدانية قاعدة وحيدة للنفوذ. تجويع المُستتبَعين وهدر ثرواتهم سيفضي حتماً إلى هذا المصير الذي يواجه نفوذ طهران الإقليمي اليوم.

لكن المأساة الأكبر هي أن الـ١٥٠٠ قتيل إيراني هم خارج حسابات المقاصة التي ستجريها واشنطن مع الجمهورية الإسلامية. “عودة النظام إلى رشده” تتمثل في عرف العالم في أن يفسح لبوتين في سوريا وللمرجعية في العراق ولسعد الحريري في لبنان، وهذه مسارات ستعيد إطلاق المآسي من جديد. أما مأساة الإيرانيين الخاصة، فهي لن تتوقف لكي يُعاد إطلاقها. فسلام من بعيد لهؤلاء الضحايا.

السابق
من هو مصطفى الكاظمي مرشّح الصّدر لرئاسة الوزراء في العراق؟
التالي
علي أكبر ولايتي: «كلن يعني كلن»