13 تشرين: ذاكرة السلطة

كيف نتذكّر وماذا؟ هذا هو السؤال الملتبس الذي لا يمتلك أحد الجواب عليه، حين تصير الذاكرة جزءاً من ماض يرفض أن يمضي ومن حاضر لا يتشكّل. كيف يتذكّر التيار العوني الذي صار حليفاً للنظام الاستبدادي السوري ذلك اليوم الدموي في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990، حين اجتاح جيش حافظ الأسد وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، مجبراً قائد الجيش اللبناني آنذاك، العماد ميشال عون، على الهرب من القصر الرئاسي واللجوء إلى السفارة الفرنسية في بيروت. يومها انتُهكت وزارة الدفاع، وأُعدم ضباط وجنود لبنانيون، وسمح لطائرات السوخوي الروسية بقصف بعبدا واليرزة، نتيجة صفقة النظام السوري مع الأمريكيين.

اقرأ أيضاً: هل نحن طائفيّون؟

وكانت علامة تلك الصفقة مشاركة الجيش العربي السوري «الممانع» في الغزو الأمريكي للعراق! كيف يرى عونيو هذه الأيام صورتهم في مرآة هذه الذاكرة؟ وخصوصاً أن العماد عون حقق حلمه المزمن بأن يصبح رئيساً للجمهورية؟ تختلف قراءات هذه الذاكرة الدموية باختلاف الناس، لكن الذاكرة التي لم تُروَ هي ذاكرة القتلى والمخطوفين الذين اختفت آثارهم، ولم يطالب أحد بحق الدم أو بمصير الذين اختفوا والتحقوا بقائمة اللبنانيين المعتقلين في سجون آل الأسد. وبدلاً من أن يراجع الجنرال وورثته تلك التجربة، فهم يندفعون إلى تكرارها بطرق مختلفة وأكثر تعقيداً. الافتراض أن 13 تشرين كان رفضاً للغزو السوري، انتهى مفعوله بعد الزيارة الشهيرة للرئيس عون إلى براد، حيث احتفل بمار مارون، ولقائه بشار الأسد عام 2008، وتحالفه مع حلفاء الأسد في لبنان. ماذا كانت 13 تشرين إذاً؟ السياسة تتقلب، فالعدو صار صديقاً، والقائد العسكري الذي كان مقربا ًمن بشير الجميّل انقلب على ماضيه، أو تأقلم مع الظرف الجديد الذي يمر به المشرق في مرحلة انحلاله وتفككه، واختار الانضواء في سلك تحالف الأقليات، والخطاب الممانع. هناك الكثير من التأويلات التي يمكن نقاشها حول ظاهرة الجنرال الرئيس، لكن الثابت هو أن قائد الجيش السابق الذي قضى في المنفى الفرنسي سنوات طويلة كان يحمل حلماً لم يتزحزح، وهو الوصول إلى الرئاسة. وهذا يفسّر الإصرار على خوض معركة خاسرة عام 1990، وهي معركة كانت آثارها مدمرة على لبنان، وخصوصاً على الطائفة المارونية، كما يفسّر معركة التعطيل الرابحة التي أوصلت عون إلى الرئاسة منذ ثلاث سنوات. أثبت الرجل قدرة عجيبة على التحمّل والتأقلم وتغيير التحالفات، وكان محمولاً على موجة شعبية وشبابية وجدت في الجيش بديلاً للكرامات المهدورة، فخاضت نضالات صعبة، ثم رأت نفسها تدريجياً خارج المعادلة، وطُرد الكثير من الكوادر بعدما عاد الجنرال إلى بيروت وسلّم مفاتيح تياره إلى صهره النشيط السيد جبران باسيل. وكما في عام 1990، عندما رفض عون فكرة ضياع الرئاسة منه بعد اتفاق الطائف، فإن الرجل قرر أن يخوض المعركة ثانية عام 2014، مستنداً إلى حلفه مع حزب الله، وإلى التحولات الإقليمية، فعطّل الحياة السياسية سنتين ونصف السنة، وفرض نفسه رئيساً رغم أنف الجميع. اعتقدنا أن الوصول إلى المبتغى سوف يضع حداً للسياسة القديمة، لكن يبدو أن هناك غواية خاصة اسمها الكرسي، وهي أم الغوايات. من الصعب أن نتخيل الجنرال طامحاً بالتمديد أو التجديد بسبب كهولته التي لا تسمح بذلك، ولكن من يدري. غير أن المؤشر الواضح هو أن الصهر الوريث قرر أن يلعب اللعبة إياها، أي لعبة حافة الهاوية من أجل أن يكرر سيرة عمه ويتبوأ المنصب الأول.

هناك قراءة للحرب اللبنانية لم يقترب منها أحد من المؤرخين، حسب ما أعرف، وهي أن نقرأها من زاوية كونها صراعاً بين زعامات الموارنة على الرئاسة. وهي قراءة تفسّر اليوم الصراع الثلاثي بين باسيل وفرنجية وجعجع، كما أنها تسمح بإعادة قراءة المجازر التي دمرت المناطق الشرقية خلال الحرب. فلبنان الذي أغرقته طبقة المافيات الفاسدة في أزمة اقتصادية وبيئية واجتماعية كبرى لم يعد يحتمل هذه الألعاب. لكن اللاعب الباسيلي لا يكترث، فهو حليف للراعي الإيراني الذي لا يلعب إلا على حافة الهاوية، من هنا فنحن أمام ثلاث سنوات مليئة بالمطبّات، لأن العهد القوي ليس سوى تعهد باستمرار السلالة في الحكم مهما كان الثمن. الظاهرة الباسيلية- العونية هي جزء من نظام المحاصصة، لكنها تريد إحداث تعديلين في هذا النظام: استعادة ما يسمى بالدور المسيحي عبر ملء كل مواقع السلطة المتاحة بالأنصار، استناداً إلى ميثاق ماروني شيعي غير معلن. وإلحاق لبنان نهائياً بالمحور الإيراني.

هذه هي اللعبة الجديدة التي ستكون تكراراً لـ 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990. فالتيار العوني بنى مقتربه التأسيسي على المقامرة بكل شيء. العهد القوي تأسس في خضم هذه اللعبة، تخلّى عن خطابه العلماني والسيادي من أجل الوصول إلى هدفه، وعندما وصل اكتشف أن الهدف هو مقدمة لتكرار الهدف نفسه، فصار العمل الوحيد هو تأسيس الوراثة. نحن في عملية تأسيسية لا نهاية لها، لذا فإن هناك مسألة واحدة مهمة في دوائر السلطة الرئاسية، هي كيف يصبح الباسيل رئيساً، أما هموم الناس وتلاعب الدولار وخطر الإفلاس، فهي مسائل ثانوية. يجب أن يصبح الوريث رئيساً مهما كان الثمن، أما مسؤولية إنقاذ البلاد من الإفلاس فليست على جدول الأعمال إلا كأداة للابتزاز والمحاصصة. لا نستطيع أن نقرأ 13 تشرين الأول/أكتوبر كجزء من الماضي لأنه لا يزال في انتظارنا. هكذا تدول الدول، ويصير الاحتفال بمئوية لبنان الكبير احتفالاً بنهاية لبنان.

السابق
مجددا.. إيران تحتجز باحثاً فرنسياً‭ ‬
التالي
بعد تعرّضه ليعقوبيان.. عطالله يتراجع ويوضح!