أميركا خرجت… هل يبتهج الرفاق؟

اميركا
بات واضحا اليوم أن عوامل الاستمراريّة في السياسة الاميركيّة تجاه الشرق الاوسط بين باراك اوباما وخلفه في البيت الابيض أكثر من عوامل الاختلاف – دع عنك البوق الصوتي المستمرّ على تويتر.

قبل فترة سئل أوباما عن القرار الذي يأسف على اتّخاذه كرئيس للولايات المتحدة، فردّ بالتندّم على التدخّل العسكري في ليبيا. احترقت سوريا تحت ناظريه وخلاصته أنّه فعل في المنطقة أكثر مّما ينبغي، لا أقلّ من المطلوب. وقف المساعدات القليلة التي كانت الولايات المتحدّة تقدّمها للجيش السوري الحرّ عام 2017 كان مؤشرا أوّليّا أن ترامب مستمرّ بالاتجاه التراجعي نفسه في الاقليم. الاستعداد للتخلّي عن البيدق الكردي اليوم مؤشر واضح آخر لانّه يخرج الولايات المتحدّة من معادلات النفوذ في سوريا تماما. وبين المؤشّرين، كان ترك السعوديّة وحيدة في مواجهة الاعتداءات الايرانيّة أبلغ رسالة للجميع أن الولايات المتحدّة في طريقها الى الخروج من اللعبة، أو أنّها خرجت منها فعلا. الاستعداد السعودي الحالي ل”التفاوض” مع ايران (اقرأ: التسليم بالارجحيّة) ليس غريبا عن شعور الرياض المفهوم باليتم، وعن قراءة دقيقة، في نهاية المطاف، لموازين القوى الاقليميّة في غياب واشنطن.

اقرأ أيضاً: نيوزويك الأميركية: البنتاغون يصرح «لن نسحب قواتنا بل سنغيّر مواقعها»

ليس تفصيلا أن يكون بين الادارتين الاميركيّتين السابقة والحاليّة هذا القدر من الاختلاف حول كلّ شيء، وأن يكون بينهما أيضا هذا القدر من التلاقي حول الشرق الاوسط. يعني هذا ببساطة أنّ التحوّل بنيويّ، أي أنّه غير مرشّح للتغيير، أقلّه على المدى المنظور. يفترض أن يكون الخبر سارّا لأجيال متلاحقة من المثقّفين والناشطين العرب ممّن تشكّل وعيهم السياسي على خلفيّة العداء للغرب، وللدور الأميركي “الامبريالي”، أليس كذلك؟ صحيح أن مرجعيّة هؤلاء العقديّة اختلفت، بمعنى أنّها كانت قوميّة عربيّة لبعضهم، ويساريّة أو اسلاميّة للبعض الاخر – لكنّ الصحيح أيضأ أنّ الحدود الفاصلة بين هذه الايديولوجيّات الثلاث كانت دوما نفّاذة، خصوصا لجهة التلاقي على شيطنة الدور الاميركي، والاصرار على قهر الامبريالية وتأديبها في الاقليم.
باستثناء، طبعا، أن الصورة ما بعد الاميركيّة للمنطقة مرعبة.
والحال أن الدور الاميركي تلاقى مرارا مع مصلحة العرب، لا ضدّها. يبدو هذا الكلام هجينا لأن النظرة العربيّة النمطيّة قاربت واشنطن حصرا من منظار الصراع العربي – الاسرائيلي. ولكنّ الخروج من خرافة فلسطين بصفتها قضيّة مركزيّة، يتيح الانتباه الى بعض الحقائق الثابتة تاريخيّا، وهي ليست بتفصيل: الولايات المتحّدة، مثلا، كانت القوّة الغربيّة الوحيدة التي حاججت أن لشعوب المنطقة حق بتقرير مصيرها بعد الحرب الكونيّة الاولى. لجنة كينغ – كراين لتقصّي الحقائق ورغبات الشعوب في الاقليم كانت أميركيّة. باريس ولندن لم تتكبّدا يومها مجرّد عناء السؤال، أليس كذلك؟ ثمّ أنّ الولايات المتحدّة هي من أنقذت مصر من هزيمتها في سيناء عام 1956، وسمحت للقاهرة تاليا بتحويل نكبة عسكرية موصوفة الى نصر سياسي. الولايات المتحدّة أيضا هي من حمى لبنان من السقوط في السجن الناصري الكبير عام 1958، أي أنّها جنبّت بيروت مصير دمشق البائس تحت حكم السرّاج وزبانيّته – فبقي للعرب مدينة كانت لهم يوما رئة ليبرالية حيّة، قبل أن يدمّرها الجنجويد العرفاتي لاحقا. الولايات المتحدة كذلك سمحت للحبيب بورقيبة أن يقول لجنرالاته يوم طالبوه بالانفاق على الجيش أن أمن تونس القومي تضمنه واشنطن، وأن الانفاق على بناء المدارس، تاليا، خير من تكديس الدبّابات. ومن حسن حظّ تونس أن بورقيبة، صديق الغرب، انتصر في صراعه على السلطة على بن يوسف، صديق ناصر. لو حصل العكس لاصطفّت تونس اليوم الى جانب طرابلس الشام، ودمشق، وسائر مساحات الخراب التي حكمها يوما أبطال الصراع الانتي – امبريالي، وأساطينه.

اقرأ أيضاً: الرئاسة التركية «مُتعنتة» وتطلب من دول العالم دعم خطة «شرق الفرات»

من نافل القول أن شيئا من كلّ هذا لم يحدث لأن الاخلاقيّات قضت به. المسألة، تكرارا، أنّ المصلحة القوميّة للولايات المتحّدة تقاطعت موضوعيّا مع مصلحة العرب في أكثر من مناسبة. وهي تحرّكت ضدّها في أكثر من مناسبة أيضا، من التمنّع عن تمويل السدّ العالي في مصرعام 1956 الى اجتياح العراق عام 2003. باختصار، كان الدور الاميركي مفيدا (جدّا) في محطّات كما كان اشكاليّا (جدّا) في أخرى. يصعب قول الامر عينه عن ورثة أميركا في المنطقة، أي عن الكوندومينيوم الروسي – الايراني – التركي، أليس كذلك؟ أي شيء جاء يوما من هذا الثلاثيّ المرعب سوى الاشلاء والجثث؟ أي شيء سيأتي سوى المزيد منها؟ والاهمّ، ربّما: أيّ نموذج تقدمّه عواصم الكوندومينيوم للعرب (وسواهم)، في التنمية، أو التحوّل الديموقراطي، أو التحديث؟ أصرّ العرب القوميّون والشيوعيّون والاسلاميّون، طوال عقود، أنّ الولايات المتحدّة أصل الشرّ، وأن انسحابها من المنطقة بداية خلاصها. هاهي أميركا تخرج فعلا من اللعبة ليبدو العرب كشاة يتقاطر حولها جلّادون لا يعلم واحدنا أي واحد منهم أقلّ توحشّا من الاخر: أهو سيّد موسكو، أم طهران، أم أنقرة؟
والحال أن هناك جمهرة من النخب السياسيّة والفكريّة أدخلت فينا منذ عقود وعيا خرافيا للسياسة، والعالم، والعلاقات الدوليّة. والحال أيضا أن هذا الفهم البائس ليس غريبا عن أحوالنا الحاليّة، البائسة بدورها.

السابق
الموازنة تحت ضغط المهلة الدستورية
التالي
العراق يتحضر لتظاهرة مليونية